لا بد أن المتابع يلفت نظره هذا الاستخدام الكثيف لكلمة “الإرهاب”، بداع ومن غير داع، وفي السياق وخارج السياق.. حتى ليجوز للمرء أن يتشكك في حالة الاستسهال هذه، وفي دوافعها من ترديد الكلمة ووصم الآخرين بها.
وأول ما نلاحظه هو غياب التعريف الدقيق للإرهاب، ولعلنا صرنا ندرك الآن أن هذا الغياب أمر مقصود، وليس ناتجًا عن جهل أو عدم مقدرة علمية وفكرية على سبر أغوار المصطلح!
فغياب التعريف يتيح لكل طرف أن يوظِّف المصطلح ضمن أهدافه، حتى رأينا أنظمة استبدادية توظفه في صراعها مع معارضيها، دون خجل!
بل رأينا “إسرائيل” تصم حركات المقاومة بالإرهاب! مع أن مقاومة الاحتلال أمر مشروع، وحسب المواثيق الدولية نفسها! فبدلاً من أن يكون “الاحتلال أفظع صور الإرهاب”؛ إذ بالمحتل يقلب الطاولة، ويتخذ من الفعل – الذي ينطبق، أول ما ينطبق، عليه هو – وسيلةً لإدانة من يمارسون حقهم المشروع، ويدافعون عن أرضهم وتاريخهم.
والعجيب أن أقلامًا وسياسات عربية انجرفت وراء الاحتلال “الإسرائيلي” في وصم مقاومي الاحتلال بالإرهاب، وفي إدانتهم حسب التعريف “الإسرائيلي” للمصطلح؛ وليس حسب ما تمليه عليهم ثقافتهم وانتماؤهم العربي، بل ولا حتى حسب ما تقضي به مواثيق الأمم المتحدة!
ويمكن تعريف “الإرهاب” بشيء من التبسيط، بأنه: استخدام العنف لتحقيق أهداف غير مشروعة؛ أو: ترويع المدنيين لتحقيق أهداف سياسية.
فالإرهاب، فيما يتصل بالعمل المسلح ضد المدنيين، يراد منه تحقيقُ أمر ليس مشروعًا، وحيازةُ ما ليس حقًّا، بتوجيه فوهة البندقية لطرف ضعيف يمكن السيطرة عليه والنفاذ من خلاله للهدف غير المشروع وغير الحق.
وإذا أتينا للجدل المثار حول أسباب “الإرهاب”، فيمكن أن نلاحظ وجود رؤيتين بهذا الشأن.
الرؤية الأولى: تذهب إلى أن لـ”الإرهاب” أسبابًا اجتماعية واقتصادية وسياسية؛ أي بيئة تصنعه، وتغذيه، وتستدعي من النصوص ما يؤيد وجهة نظر أصحابه، وتجعل من دوافعهم – عند البعض – أمرًا مشروعًا جديرًا بالتأييد والدعم.
الرؤية الثانية: تزعم أن الإرهاب كامن في النص الديني وفي عقل الإرهابي، وليس خارجًا عنهما؛ وبالتالي لا جدوى من الحديث عن ضرورة تغيير البيئة التي قد يتذرع بها الإرهابي، وعلينا بدلاً من ذلك بالعمل على تغيير النص الديني، أو إيجاد تفسير مناسب له ينزع منه أي مستند أو مبرر للإرهاب، ولما سئل أحد من يشتغلون بالقانون المدني عن سبب الإرهاب، قال: “ظاهرة الإرهاب سببها ديني وليس اجتماعيًّا”.
ولعلنا نلاحظ أن أنظمة الاستبداد تجد في الرؤية الثانية خلاصًا ومَهْربًا لها، للتنصل من أي إصلاحات تطالَب بها؛ فهي رؤية تنقل المعركة لمساحة خارج مساحة هذه الأنظمة، وتقدم لها على طبق من ذهب التبرئة من تهمة التسبُّبِ في إيجاد الإرهاب وتغذيته، بل والتبرئة اللاحقة من استخدام وسائل غير مشروعة أو استخدام القوة المفرطة في مواجهة “الإرهابيين”.
لكن السؤال المهم، الذي لم يُجب عليه أصحاب هذه الرؤية، والذي أتصور أن الإجابة عنه بإنصافٍ كفيلةٌ بأن تضع أيدينا على الجرح، وهو: إذا كان الإرهاب نابعًا من النص وليس من الواقع، وكامنًا في عقل الإرهابي وليس البيئة؛ فلمَ نرى هذا الإرهاب ينبعث في ظرف زمني دون آخر، وفي بيئة معينة دون أخرى؟ بل ولمَ يظهر ثم يختفي ولا يمثل حالة دائمة في حياة الشعوب، بينما النص موجود دائمًا ولم يغب حتى حين غاب الإرهاب؟
وإذا كان الأمر على هذا النحو – وهو أن الإرهاب ابن بيئة ذات مواصفات محددة أولاً، ثم يبحث عن شرعية في النص ثانيًا – فإن الانشغال بالحديث عن طبيعة البيئة المنتجة للإرهاب يصبح هو واجب الوقت، وليس تطويع النصوص لمسايرة أهدافٍ محددة سلفًا، ومناقضةٍ للنص نفسه!
ولا تعني هذه الخلاصة إنكارَ وجودِ قراءاتٍ مبتسرة متعسفة للنص الديني، وأننا لسنا بحاجة لتعرية هذه القراءات والكشف عن عوارها؛ بما يُجلِّي حقيقة النص محل الالتباس في ضوء القراءة الواعية لمجمل النصوص التي تتناول الموضوع، وفي ضوء أهداف الإسلامية الكلية ومقاصده العامة.
كلا بل نحن بحاجة ماسة لبذل هذا الجهد، لإعادة تسكين النص في معناه الصحيح، ولتحريره مما علق به.. لكنْ ثمة فرقٌ شاسع بين أن يُنظَر للنص كمتَّهَم، ويدان مرتين، مرةً لذاته من حيث هو نص، ومرة أخرى لفعل بعض المنتسبين إليه، ثمة فرق بين هذا الموقف، وبين أن نرى النصَّ نفسَه محلَّ سطوٍ وتدليس، ونَنظر إليه باعتباره أحد ضحايا البيئة المتأزمة التي تسيء للنص وتسيء للإنسان، سواءً بسواء!
نحن بحاجة لتحرير “النص” من الأفهام المغلوطة، والتفسيرات المبتسرة، وبحاجة أيضًا لتحرير “الإرهاب” ممن يتخذونه مطيةً للإساءة للنص وللإنسان، ومَنفذًا للهروب من استحقاقات الحرية والتنمية والعدالة الاجتماعية والمساءلة والمحاسبة.
هذه الاستحقاقات التي إن توافرت، فسيكون بمقدورنا أن نخوض معركة مواجهة الإرهاب دون تدليس وتزييف، ودون أن نخلط الأوراق، ودون أن يُتخذ “الإرهاب” وسيلة لإرهاب الآخرين.
المصدر: “إسلام أون لاين”.