ذخرت سيرة السلطان عبد الحميد الثاني (1876 – 1909) بأعمال جليلة للأمة في وقت عانت مخاطر داخلية وخارجية، لعل أبرز تلك الأعمال مشروع الجامعة الإسلامية التي أراد به ربط أجزاء الأمة مع بعضها البعض، ومقاومته للمشروع الصهيوني والماسونية التي وقت خلفه. فأين تبرز أهمية مشروع الجامعة الإسلامية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني؟
وما الأعمال الرديفة التي دعمت تلك المسيرة الحضارية في عهده؟
لم تظهر فكرة الجامعة الاسلامية، في معترك السياسة الدولية إلا بعد ارتقاء السلطان عبد الحميد عرش الدولة العثمانية عام 1876م. فبعد أن التقط السلطان عبد الحميد أنفاسه، وجرد المتأثرين بالفكر الأوروبي من سلطاتهم، وتولى هو قيادة البلاد، قيادة حازمة اهتم السلطان عبد الحميد بفكرة الجامعة الاسلامية. وقد تكلم في مذكراته عن ضرورة العمل على تدعيم أواصر الأخوة الاسلامية بين كل مسلمي العالم في الصين والهند وأواسط أفريقيا وغيرها، وحتى إيران. فهو يُعبر عن ثقته في وحدة العالم الاسلامي بقوله: “يجب تقوية روابطنا ببقية المسلمين في كل مكان، يجب أن نقترب من بعضنا البعض أكثر وأكثر، فلا أمل في المستقبل إلا بهذه الوحدة. ووقتها لم يحن بعد لكنه سيأتي، سيأتي اليوم الذي يتحد فيه كل المؤمنين وينهضون فيه نهضة واحدة ويقومون قومة رجل واحد وفيه يحطمون رقبة الكفار”. وكانت فكرة الجامعة الاسلامية في نظر السلطان عبد الحميد تنطوي على عدة أهداف منها:
- مواجهة أعداء الاسلام المثقفين بالثقافة الغربية، والذين توغلوا في المراكز الإدارية والسياسية الحساسة، في أجهزة الدول الاسلامية عمومًا، وفي أجهزة الدولة العثمانية خصوصًا، عند حدهم، عندما يجدون أن هناك سدًا إسلاميًا ضخمًا وقويًا يقف أمامهم.
- محاولة إيقاف الدول الاستعمارية الأوروبية وروسيا، عند حدها عندما تجد أن المسلمين، قد تكتلوا في صف واحد، وقد فطنوا إلى أطماعهم الاستعمارية ووقفوا ضدها بالوحدة الإسلامية.
- إثبات أن المسلمين يمكن أن يكونوا قوة سياسية عالمية، يحسب له حسابها في مواجهة الغزو الثقافي والفكري والعقدي الروسي -الأوروبي النصراني.
- استعادة الدولة العثمانية بوصفها دولة الخلافة قوتها وبذلك يمكن إعادة تقويتها. وإلى هذا أشار المؤرخ البريطاني (أرنولد توينبي) في قوله: (إن السلطان عبد الحميد، كان يهدف من سياسته الإسلامية، تجميع مسلمي العالم تحت راية واحدة، وهذا لا يعني إلا هجمة مضادة، يقوم بها المسلمون ضد هجمة العالم الغربي التي استهدفت عالم المسلمين).
ومن أهم معالم الجامعة الإسلامية التي تجلت في عهد السلطان عبد الحميد:
- تطوير التعليم والاستعانة بالعلماء المسلمين
ولذلك استخدم السلطان عبد الحميد، كل الإمكانيات المتاحة في ذلك الوقت، من اتخاذ الدعاة من مختلف جنسيات العالم الاسلامي، من العلماء والمبرزين، في مجالات السياسة، والدعاة الذين يمكن أن يذهبوا إلى أرجاء العالم الاسلامي المختلفة، للالتقاء بالشعوب الاسلامية وفهم ما عندهم وإبلاغهم بآراء وتوجيهات السلطان الخليفة ونشر العلوم الاسلامية، ومراكز الدراسات الإسلامية، في الداخل والخارج، وطبع الكتب الاسلامية الأساسية.
- الاهتمام بالعرب العثمانيين:
حاول السلطان عبد الحميد اتخاذ اللغة العربية لأول مرة في تاريخ الدولة العثمانية، لغة للدولة أو ما يسمى بالتعبير المعاصر “تعريب” الدولة العثمانية، حيث كان يرى -منذ أن تولى الحكم- ضرورة اتخاذ اللغة العربية لغة رسمية للدولة العثمانية. وفي هذا يقول: (اللغة العربية لغة جميلة. ليتنا كنا اتخذناها لغة رسمية للدولة من قبل. لقد اقترحت على (خير الدين باشا -التونسي- عندما كان صدراً أعظم أن تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية، لكن سعيد باشا كبير أمناء القصر اعترض على اقتراحي هذا. وقال: (إذا عرّبنا الدولة فلن يبقى -للعنصر التركي- شيء بعد ذلك). وربما من الأخطاء التي وقعت فيها الدولة العثمانية عدم تعريب الدولة وشعبها بلغة القرآن الكريم والشرع الحكيم. وحاول السلطان استمالة زعماء القبائل العربية، وإنشاء مدرسة في عاصمة الخلافة، لتعليم أولاد رؤساء العشائر والقبائل، وتدريبهم على الإدارة.
أنشأ السلطان عبد الحميد في إستانبول، باعتبارها مقر الخلافة ومركز السلطنة (مدرسة العشائر العربية) من أجل تعليم وإعداد أولاد العشائر العربية، من الولايات العربية كسورية، وبغداد، وطرابلس الغرب واليمن، والحجاز. وكانت مدة الدراسة في مدرسة العشائر العربية في إستانبول خمس سنوات، وهي داخلية، تتكفل الدولة العثمانية بكل مصاريف الطلاب، ولكل طالب “إجازة صلة الرحم” وهي إجازة مرة كل سنتين، وسفر الطالب فيها على نفقة الدولة.
- الاهتمام بعلماء الدين والمتصوفة
عمل على استمالة شيوخ الطرق الصوفية، كما اتخذ من الزهاد من غير المتصوفة وسيلة أيضاً للدعوة لفكر التجمع الاسلامي، وتكونت في عاصمة الخلافة لجنة مركزية، مكونة من العلماء وشيوخ الطرق الصوفية حيث عملوا مستشارين للسلطان في شؤون الجامعة الاسلامية: الشيخ (أحمد أسعد) وكيل الفراشة الشريفة في الحجاز، والشيخ (أبو الهدى الصيادي) شيخ الطريقة الرفاعية، والشيخ (محمد ظافر الطرابلسي) شيخ الطريقة المدنية، والشيخ -رحمه الله- أحد علماء الحرم المكي، كانوا أبرز أعضاء هذه اللجنة المركزية للجامعة الاسلامية، وكان معهم غيرهم، وكانت الدولة العثمانية تنتشر فيها هيئات فرعية في كافة الأقاليم خاضعة لهذه اللجنة، ومن أهمها التي كانت في مكة تحت إشراف شريف مكة ومهمتها نشر مفهوم الجامعة الاسلامية في موسم الحج بين الحجاج، وأخرى في بغداد، وتقوم بنفس المهمة بين أتباع الطريقة القادرية، الذين يأتون بكثرة من الشمال الأفريقي لزيارة الشيخ عبد القادر الكيلاني مؤسس الطريقة، وقد قدرت أعداد هؤلاء في إحدى السنوات بحوالي 25.000 نسمة.
- الإنجازات التنموية الاجتماعية والاقتصادية
اهتم بالمرأة وجعل للفتيات داراً للمعلمات ومنع اختلاطهنّ بالرجال، وقام بمحاربة سفور المرأة في الدولة العثمانية، وهاجم تسرب أخلاق الغرب، إلى بعض النساء العثمانيات.
كما استفاد من الصحافة الاسلامية في الدعاية للجامعة الاسلامية، واتخاذ بعض الصحف وسيلة للدعاية لهذه الجامعة، والعمل على تطوير النهضة العلمية والتقنية في الدولة العثمانية، وتحديث الدولة فيما هو ضروري.
ومن أعماله التنموية الكبرى لتحقيق فكرة الجامعة الإسلامية تشييده خط سكة حديد الحجاز، إذ عمل الحميد على كسب الشعوب الاسلامية عن طريق الاهتمام بكل مؤسساتها الدينية والعلمية والتبرع لها بالأموال والمنح ورصد المبالغ الطائلة لإصلاح الحرمين وترميم المساجد وزخرفتها وأخذ السلطان يستميل إليه مسلمين العرب بكل الوسائل فكون له من العرب حرسًا خاصًا وعين بعض الموالين له منهم في وظائف كبرى منهم (عزت باشا العابد) -من أهل الشام- الذي نجح في أن ينال أكبر حظوة عند السلطان عبد الحميد وأصبح مستشاره في الشؤون العربية. وقد لعب دوراً هاماً في مشروع سكة حديد الحجاز الممتدة من دمشق إلى المدينة المنورة، وهو بهذا المشروع الذي اعتبره السلطان عبد الحميد وسيلة من الوسائل التي أدت لأعلاء شأن الخلافة ونشر فكرة الجامعة الاسلامية.
كانت سياسة عبد الحميد الإسلامية محضة، فأراد أن يجمع قلوب المسلمين حواليه باعتباره خليفة المسلمين جميعا؛ فكان مد خط السكة الحديدي بين الشام والحجاز من الوسائل الجميلة في تحقيق هدفه المنشود.
5- مقاومة المخططات الغربية في أراضي السلطنة العثمانية
شرعت بريطانيا منذ الربع الأول من القرن التاسع عشر في تحريض الأكراد ضد الدولة العثمانية، بهدف إيجاد عداء عثماني كردي من ناحية، ودفع الأكراد للانفصال بدولة تقتطع من الدولة العثمانية من ناحية أخرى.
وعندما قامت شركة الهند البريطانية، زاد اهتمام الإنكليز بالعراق، وقامت على العمل لإيجاد حركة قومية بين الاكراد. وتجول مندوبون بريطانيون بين عشائر الأكراد في العراق في محاولة لتوحيد العشائر الكردية ضد الدولة العثمانية. وكانت المخابرات العثمانية تتابع الأمور بدقة متناهية، ووضع السلطان عبد الحميد خطة مضادة للعمل التدميري الإنكليزي، تمثلت فيما يلي:
- قامت الدولة العثمانية بحماية المواطنين الأكراد من هجمات الأرمن الدموية ضدهم.
- أرسل إلى عشائر الأكراد وفوداً من علماء المسلمين للنصح والإرشاد والدعوة إلى الاجتماع تحت دعوة الجامعة الاسلامية، وأدت هذه الوفود دورها في إيقاظ الأكراد تجاه الاطماع الغربية.
- اتخذ السلطان عبد الحميد إجراءات يضمن بها ارتباط أمراء الأكراد به وبالدولة.
- أسس الوحدات العسكرية الحميدية في شرق الأناضول من الأكراد، للوقوف أمام الاعتداءات الأرمنية.
- كان موقف الدولة قويًا ضد أطماع الأرمن في إقامة دولة تقطع من أراضيها، وبذلك شعر الأكراد المقيمون في نفس المنطقة بالأمان.
- عملت الدولة على كشف مخططات الانكليز الهادفة إلى تفتيت الدولة العثمانية تحت مسمى حرية القوميات في تأسيس كل قومية دولة مختصة بها.
نتيجة ذلك التف عدد كبير من العلماء ودعاة الأمة الاسلامية حول فكرة الجامعة الإسلامية من أمثال جمال الدين الأفغاني، ومصطفى كامل من مصر، وأبي الهدى الصيادي ورشيد رضا من سورية، وعبد الرشيد إبراهيم من سيبيريا، بالإضافة إلى شيوخ الحركة السنوسية في ليبيا وغيرها.
وقاوم السلطان عبد الحميد مخططات الإيطاليين في ليبيا؛ حيث كانت إيطاليا تحلم بضم شمال أفريقيا، لأنها تراه ميراث إيطالي هكذا صرح رئيس وزرائها (ما تريني). لكن فرنسا احتلت تونس وانكلترا احتلت مصر، ولم يبق أمام إيطاليا إلا ليبيا.
كان السلطان عبد الحميد متيقظًا لتلك الأطماع الإيطالية، فقام باتخاذ التدابير اللازمة أمام الأطماع الإيطالية ولما شعر أنه سيواجه اعتداءً إيطاليًا مسلحًا على ليبيا، قام بإمداد القوات العثمانية في ليبيا بـ (15.000) جندي لتقويتها وظل يقظاً حساساً تجاه التحركات الايطالية، ويتابعها شخصياً وبدقة، ويطالع كل ما يتعلق بالشؤون الليبية بنفسه بواسطة سفير الدولة العثمانية في روما، ووالي طرابلس مما جعل الايطاليين يضطرون إلى تأجيل احتلال ليبيا وتم لهم ذلك في عهد جمعية الاتحاد والترقي. وفي الحقيقة لولا الله والدولة العثمانية لأصبحت ليبيا والجزائر وتونس والمغرب دول نصارى.
—–
* المصدر: موقع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.