الاختلاف سُنة كونية بينما التماثل والتطابق استثناء حيث يجعلان الحياة فاقدة لروح التجديد
مجتمعاتنا تملكت ثقافة الرأي الواحد والاستبداد وعدم سماع وجهات النظر الأخرى
تتعلق قلوب المؤمنين دائماً بطاعة الرحمن سبحانه، وترتقي في فضاء القلوب التقية النقية المتعلقة بربها، فإذا عملت الطاعات وأخلصت لله صعدت في سماء الربانية، فتصير الطاعة سهلة ميسورة على من سهل الله له؛ (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) (الزمر: 23).
في رمضان تسمو هذه النفوس والأرواح لما حباه الله من خصال طيبة تتقارب بالطاعات مع بعضها بعضاً، وتتنافر وتختلف إذا هبطت وبعدت عن مكارم الأخلاق، فهو شهر له خصوصيات لدى كل مسلم يروم رضا الله تعالى؛ فيعلو بهذا الرضا في ملكوت المسبحين، فلا تراه إلا راكعاً، باكياً، خاشعاً، متواضعاً لله رب العالمين.
غير أن الأمة ابتليت ببعدها عن منهج ربها، فترى البعض يبعد بقلبه من روح الصيام فلا يأخذ منه إلا الاسم، لكنه تحت قوله «إني صائم» يرتكب منكر الاختلافات والمشاحنات مع الآخرين، ويتناسى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «رُبّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع» (رواه أبو هريرة، في صحيح الجامع).
سنة الاختلاف
لقد خلق الله هذا الكون من مكونات مختلفة، كما خلق الإنسان من صلصال مختلف حتى يتمايز الجميع؛ ففي طبائع الناس اختلاف، فمنهم الهين اللين، السهل الرفيق، ومنهم الصعب الجامد، ومنهم ما سوى ذلك، ومن الناس الطيب المؤمن، ومنهم الخبيث الكافر.
والاختلاف سُنة كونية، بينما التماثل والتطابق استثناء للقاعدة، حيث إن التطابق يجعل الحياة فاقدة لروح التجديد.
إن الاختلاف الإيجابي البناء هو أن يسعى كل واحد لترويج مسلكه وإظهار سلامة موقفه وصواب نظرته دون أن يحاول هدم مسالك الآخرين أو الطعن في وجهة نظرهم وإبطال مسلكهم، بل يجب عليه السعي لإكمال النقص ورأب الصدع والإصلاح ما استطاع إليه سبيلاً.
أما الاختلاف السلبي فهو محاولة كل طرف تخريب مسلك الآخر وهدمه، ومبعث ذلك الحقد والعداوة والضغينة.
ولعل شهر رمضان يكون فرصة لتعزيز الاختلاف الإيجابي البناء ومعالجة الاختلاف السلبي الهدام، تطبيقاً لقوله تعالى: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ) (آل عمران: 105).
أسباب الخلاف
شهر رمضان شهر الحب والعطاء، وهو شهر بناء الشخصية المسلمة التي تملك إرادتها وشهواتها، ولا تملكها الشهوة، وهو شهر بناء العادات الصحيحة وهدم عادات قاتلة خاطئة، وشهر الإرادة الحرّة التي تحررت من جميع المعبودات وجمعت شتاتها على معبود واحد حقّ، وهو شهر الإنصات والإصغاء لمراد الله منك في كتابه العزيز ليرسم لك آفاق حياتك من جديد.
كما أنه شهر التجدد، وشهر الروح والعقل، وشهر الإقبال على الأهم والأغلى والأجدى والأثمن في الحياة وترتيب الأولويات بما يحقق خيري الدنيا والآخرة، كل هذه الخيرات تجعله شهر نبذ الخلاف، لكن البعض لديهم قصور في فهم فلسفة الصوم فألصقوا به بعض أسباب الخلاف، مثل:
1- ضعف ثقافة الحوار:
لقد تملكت مجتمعاتنا ثقافة الرأي الواحد والاستبداد وعدم سماع وجهات النظر الأخرى، وتزداد أحياناً في شهر رمضان لطبيعة الصيام عند البعض؛ وهو ما أدى لانتشار مظاهر سيادة الرأي الواحد واللون الواحد وطغيان الاستبداد، والانتهاك الواسع للقانون وغياب العدالة.
2- تدني مستوى التعليم وانتشار الأمية:
من الأسباب القوية التي تؤدي للتناحر وعدم تقبل وجهات النظر ضيق الأفق عند بعض المتعلمين، فضلاً على انتشار الأمية وتدني مستوى التعليم عند البعض؛ ولذلك قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَقِيهٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ» (رواه الترمذي)، فالفقيه يستطيع معرفة مسالك الشيطان وكيف يسدها، وكيف يتعامل مع الآخرين.
بالإضافة إلى الكثير من الأسباب الأخرى التي يضيق المقام عن تتبعها.
أثر الاختلاف على الأمم والجماعات:
لقد خلق الله الناس أمماً لتتعاون فيما بينها، ويسود الحب والرحمة بينهم، وحث الشرع على الوحدة وعدم الفرقة الناتجة عن الاختلاف الذميم الذي يفرق الأمة ويشرذمها.
1- الفرقة والتشرذم والفشل وذهاب القوة؛ فمن أثر الاختلاف على الأمم والجماعات والحركات الفرقة والتشرذم، ولقد جاءت النصوص الشرعية بالنهي عن الاختلاف والافتراق.
2- نزول البلاء وهلاك الأُمم؛ وما نزلت المشكلات في بلد من بلدان الدنيا إلا حينما تنازع أهله واختلفوا، ونزغ الشيطان بينهم، وحلت الأهواء بينهم، فنزل البلاء بهم؛ «ولا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا».
3- زعزعة الثقة بالإسلام ومناهج العاملين والداعين إليه؛ فقد جرت عادة الناس في الربط بين الداعي ودعوته نجاحاً وفشلاً، ومن ثم إتاحة الفرصة لظهور تيارات من التشكيك والدعوة للانسلاخ من الدين، فانظر كم يجني أهل التنازع على الأمة ودينها ورسالتها!
4- إتاحة الفرصة للأعداء للاستقطاب وبث روح التنازع بين الأمة الواحدة.
5- إشاعة روح اليأس والإحباط وسط الصفوف المسلمة التي يحزنها النزاع والحرب وتندلع بين الأمة بل والجماعة المسلمة.
تهذيب الاختلاف
إذا كان بعض قصيري النظر يرون في رمضان أسباباً للاختلاف، فعلينا أن نضع الأمر في نصابه الصحيح؛ بحيث نجعل من رمضان فرصة لتهذيب الأخلاق المنطلقة من تحقيق التقوى التي هي أهم مقاصد الصوم، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {183}) (البقرة).
وحتى يتحقق ذلك لا بد من:
1- استحضار النوايا؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات»، لذا لا بد من أجل الوصول إلى حوار إيجابي الصدق في النية مع الله حتى تصفو القلوب وتتجرد من الأهواء، ولعل رمضان فرصة للتدرب على تصحيح النيات وتحقيق التجرد والإخلاص.
2- التواضع؛ لكي ينجح الاختلاف البناء الذي يبنى الأمم والشعوب لا بد أن يسود التواضع وقبول وجهات النظر الأخرى والتعرف عليها، فأنت يا من أثر فيك الامتناع عن الأكل والشرب بضع ساعات لا تغفل عن حقيقة نفسك وطبيعتك؛ فتواضع لعباد الله حتى يرفعك الله.
3- نشر ثقافة الحوار المبنية على التسليم بحقّ الاختلاف والتنوع؛ جميل أن نتحاور دون إقصاء أو تهميش، والأجمل أن نتبادل المعرفة والرأي دون ترهيب، والخطوة الأولى لتحقيق ذلك هي تأكيد حق الاختلاف ليس على مستوى الكلمات أو الشعارات فحسب، بل على مستوى الممارسة الفعلية، في كل موقع وكل مكان.
ولعل شهر رمضان فرصة لتحقيق هذا الأمر مع تقييد الشياطين وتضييق مجاريها بالجوع والعطش.
4- اجعل الاختلاف طاقة إيجابية؛ إن الإيمانيات التي ينشرها شهر رمضان على الأرواح تجعله شهر التقاء لا شهر اختلاف، فوجود أكثر من وجهة نظر أو رأي حول الموضوع الواحد لا يمكن تفسيره على أنه حالة سلبية، بل العكس من ذلك، فإنها حالة إيجابية مفيدة لا بد منها في أي نقاش يجري بين مجموعة من الأفراد، لما في ذلك من فوائد كثيرة وكبيرة، فأعقل الناس من جمع إلى عقله عقول الناس.
5- الالتزام بآداب الحوار؛ كالإنصات وعدم قطع الحوار بصوت مرتفع للسيطرة على النقاش، بل يجب مراعاة التكلم بذوق وأدب واختيار الكلمات المعبرة الجميلة.
المسلمون يد واحدة، وقلب واحد، وكيان واحد، وفي رمضان تظهر هذه الوحدة العظيمة، فشهر واحد وصيام واحد وقبلة واحدة ومنهج واحد، وهم متوجهون بقلوبهم لرب واحد، تلهج جميع الألسنة في هذا الشهر بكتاب واحد (القرآن الكريم)، ولهذا جعلنا الله أمة واحدة، فلماذا بلغت بنا الحال من هذا الاختلاف؟ فلا ينبغي أن يكون تفرُّق المسلمين واختلافهم في يوم صومهم وفطرهم ناتجاً عن خلافات سياسية ومذاهب فكرية واعتقادات باطلة.
لقد تجرعت الأمة حياة التشرذم والاختلاف حتى أصبحنا كالأيتام على موائد اللئام، فهل يكون رمضان الذي يمر العام تلو العام سبباً لوحدتنا، ورفع البلاء عن أمتنا، أم نظل صرعى الاختلاف والتشرذم؟!
المراجع
1- جمال البنا: التعددية في مجتمع إسلامي، ص 10 – 11، دار الفكر الإسلامي.
2- مجلة بشرى، العدد 77، المحرم 1424هـ.
3- الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد، يوسف القرضاوي، الشروق، ص 231.