تتركز التصريحات الرسمية التركية على مدى الأشهر الماضية على مناطق شرق الفرات في سورية، حيث تتموضع قوات سورية الديمقراطية، أحد التمظهرات العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي، مهددة بعملية عسكرية ضد هذه القوات على غرار عمليتي “درع الفرات”، و”غصن الزيتون”.
ومع تصاعد وتيرة التصريحات والتهديدات، قصفت الطائرات والمدافع التركية مواقع لقوات سورية الديمقراطية أكثر من مرة، مؤكدة جدية أنقرة في تهديداتها وعزمها على مواجهة المشروع الانفصالي لحزب الاتحاد.
تطور الموقف التركي من الثورة السورية على مدى السنوات الماضية وتبدل أكثر من مرة، تأثراً بعدة عوامل في مقدمتها التطورات الميدانية في الداخل السوري، والمقاربة الإقليمية والدولية للقضية السورية، وانعكاسات المشهد التركي الداخلي قوةً وضعفاً وتفرغاً وانشغالاً.
المقاربة الدولية للأزمة السورية كانت وما زالت عاملاً مؤثراً في صياغة الموقف التركي؛ حيث انتقل هذا التوصيف وتنقل بسرعة من تحركات شعبية احتجاجية إلى ثورة سلمية إلى ثورة مسلحة إلى حرب أهلية إلى حرب على الإرهاب، وهي اللافتة المرفوعة على مدى السنوات الأخيرة التي غيرت المعادلة السورية ومواقف مختلف الدول مما يحصل فيها وعلى أطرافها.
وبتأثير من ذلك -إضافة لعوامل أخرى مهمة- تغير الموقف التركي من الدعوة إلى إصلاحات سياسية وديمقراطية في شهور الثورة الأولى، إلى الدعم السياسي للمعارضة السورية ونزع الشرعية عن نظام “الأسد”، إلى الدعم المفتوح بكافة أشكاله -بما فيها العسكرية- للمعارضة السورية التي اتخذت من إسطنبول مقراً لها، إلى دعم الحل السياسي ومسار التفاوض في كل من جنيف ثم أستانا، إلى الحديث عن إمكانية بقاء “الأسد” في الفترة الانتقالية، إلى التدخل العسكري المباشر في عمليتي “درع الفرات”، و”غصن الزيتون”، وصولاً إلى الجهود الحالية على عدة جبهات مثل مسار أستانا والإطار الثلاثي الضامن لوقف إطلاق النار في سورية واتفاق سوتشي بخصوص إدلب والاهتمام الخاص بشرق الفرات.
وفي خضم كل هذه التطورات في دولة جارة مثل سورية، ومع انعكاسات ما يجري على الأرض السورية على تركيا بشكل مباشر أو غير مباشر؛ سياسياً واقتصادياً وأمنياً واجتماعياً، تتبدى لدى تركيا أولويات واضحة في القضية السورية حالياً، تتقدمها الأولوية الأهم -التي تكاد تنظم الموقف التركي بشكل شبه منفرد- وهي مواجهة مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي، ويضاف لها ثانوياً أولويات مثل وقف إطلاق النار في عموم الأراضي السورية، والتمهيد للحل السياسي وعودة اللاجئين إلى مواطنهم، وغيرها.
ترى أنقرة في الحزب امتداداً سورياً لحزب إرهابي هو العمال الكردستاني الذي يخوض حرباً انفصالية ضد الدولة التركية منذ عام 1984م، سقط ضحيتها أكثر من 40 ألف مواطن تركي، فضلاً عن تأثيراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما أن مشروعه الانفصالي -على شكل دويلة أو ممر أو نظام فيدرالي أو غيرها- خطر على أمنها القومي، باعتبار أن أي كيان سياسي يحكمه حزب الاتحاد قد يتحول سريعاً إلى منصة تدريب وإطلاق عمليات عسكرية ضدها مثل حال جبال قنديل في العراق حالياً، فضلاً عن التعقيدات المتوقعة في الملف الكردي الداخلي في تركيا.
من التحفظ للتدخل
يقضي مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي بتشكيل كيان سياسي في الشمال السوري يمتد من حدود العراق شرقاً حتى مياه المتوسط غرباً، بحيث يشمل ما سميت بـ”الكانتونات” الثلاثة: عين العرب/كوباني، والجزيرة في الشرق، وعفرين في الغرب.
في السنوات الأولى، ورغم موقفها السياسي الواضح في دعم المعارضة السورية ورفض شرعية النظام، بقيت تركيا متحفظة في التدخل المباشر في الأزمة السورية، معتبرة أن هناك أطرافاً تريد جرّها للمستنقع السوري، وفق تعبير أكثر من قيادي تركي حينها، ما أدى لتوجيه انتقادات لأنقرة باعتبار أن موقفها “متردد”، وسمح لآخرين بالتدخل وممارسة أدوار مؤثرة بالاتجاه الآخر.
لكن تطورات السنوات الأربع الأخيرة، ولا سيما ما يتعلق بمشروع حزب الاتحاد والدعم غير المسبوق الذي توفره له واشنطن، بدلت الموقف التركي جذرياً وأخرجت أنقرة عن تحفظها وفي توقيت غير متوقع البتة.
فبعد حوالي شهر ونصف شهر فقط من المحاولة الانقلابية الفاشلة وتداعياتها على تركيا سياسياً واقتصادياً وحتى عسكرياً، من خلال الضرر المعنوي الذي أصاب المؤسسة العسكرية وعملية إعادة هيكلتها، نفذت تركيا عملية “درع الفرات” في الشمال السوري، ابتداءً من أغسطس 2016 وحتى مارس 2017م، النتيجة المباشرة لهذه العملية كانت قطع التواصل الجغرافي بين الكانتونات الثلاثة في الشرق والغرب، وبالتالي غرس خنجر في مشروع دولة الحزب، وفق تعبير الرئيس التركي.
وفي يناير 2018م، أطلقت أنقرة عملية “غصن الزيتون” شمال غرب سورية، طاردة وحدات حماية الشعب، الذراع العسكرية لحزب الاتحاد، من منطقة عفرين، وبالتالي القضاء نهائياً على إمكانية وصولها لمياه المتوسط؛ ما يعني ضربة مباشرة لفكرة الدويلة المستقلة التي يمكنها تصدير منتجاتها، وخصوصاً النفط والغاز، بنفسها دون الحاجة لدول الجوار، وهو عامل أساسي في المشروع الانفصالي.
شرق الفرات
رغم عمليتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون” المؤثرتين في مسار المشروع، اللتين أعطيتا تركيا يداً عليا، وأعادتا حضورها في الملف السوري بزخم غير مسبوق، فإنها لا تراهما كافيتين لتأمين حدودها وأراضيها وحفظ أمنها، بل ما زالت تنظر لمناطق شرق الفرات على أنها الأساس والجوهر -وبالتالي الخطر الرئيس- في المشروع الانفصالي.
تعتبر الولايات المتحدة قوات سورية الديمقراطية، التي تشكل وحدات حماية الشعب عمودها الفقري، فاعلاً محلياً موثوقاً وقادراً على مواجهة ما يسمى بـ”تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش)، وهناك شرق الفرات، عمّقت علاقاتها بها ودعمها لها، من خلال الإسناد والتدريب والتسليح، محولة هذه المجموعات إلى شبه جيش نظامي يعد مقاتلوه بعشرات الآلاف، كما أن هذه القوات تعطي المسوغ وشيئاً من الشرعية للتواجد الأمريكي العسكري شرق الفرات على امتداد 14 نقطة عسكرية منها قاعدتان عسكريتان.
ترى تركيا في هذه المناطق الخطر الأكبر الذي يشكله حزب الاتحاد الديمقراطي رغم تقويضها لامتداداته في الوسط والغرب، فهذه المناطق تعتبر أرضاً واسعة يسيطر عليها الحزب وتشكل حوالي ثلث مساحة سورية، بما في ذلك الثروات البشرية والاقتصادية والزراعية والمائية وموارد الطاقة من نفط وغاز، بما يجعلها بحق خزان سورية الاقتصادي، فإذا ما أضيف لذلك ما سبق ذكره من تشكيلات عسكرية وخبرات ميدانية، والدعم الأمريكي الذي يتواصل بزخم غير مسبوق وبأسلحة ثقيلة ونوعية أحياناً رغم تحفظات أنقرة المتكررة، يتضح لنا لماذا تركز الأخيرة على هذه المنطقة وتهدد بعملية عسكرية إزاءها.
في ظل الوجود الأمريكي هناك، ولأسباب أخرى ميدانية ولوجستية وحتى سياسية، ليس من المنتظر أن تشن تركيا عملية عسكرية واسعة تتضمن تدخلاً برياً مثلاً على غرار عمليتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون” في تلك المناطق؛ أولاً: لأن الكلفة العسكرية لعملية كهذه ستكون مختلفة عما سبقها، وثانياً: لتجنب حصول مواجهة مباشرة أو غير مباشرة مع القوات الأمريكية المتمركزة في تلك المناطق.
ما المتوقع إذن؟
بالنسبة لأنقرة، يتعلق الأمر بالأهداف أكثر مما يتعلق بالوسيلة والشكل؛ بمعنى أن ما تريده هو تقويض إمكانات حزب الاتحاد الديمقراطي لتأسيس كيان سياسي يحكمه على حدودها الجنوبية، وتقليل حجم نفوذه وسيطرته في المنطقة، وهو ما يطرح فكرة الحلول الوسط الممكنة ما بين التمنع والاجتياح العسكري، ومنها:
أولاً: استمرار القصف الجوي والمدفعي لمواقع قوات سورية الديمقراطية، وربما يمتد الأمر لاستهداف بعض قياداتها.
ثانياً: التوافق مع الولايات المتحدة على إخراج قوات سورية الديمقراطية من بعض البلدات الحدودية، مثل تل أبيض، بما يخدم فكرة حماية الحدود والداخل التركيين.
ثالثاً: تخفيض نسبة المساحات التي تسيطر عليها قوات سورية الديمقراطية وإخراجها من بعض المدن والبلدات ذات الأغلبية العربية، الرقة على سبيل المثال.
رابعاً: تخفيض نسبة سيطرة العناصر الكردية، وحدات حماية الشعب -تحديداً- على قوات سورية الديمقراطية، من خلال رفدها بأعداد مقبولة من العناصر الأخرى، وتحديداً التركمانية والعربية، بما يقلل من نفوذ حزب الاتحاد الديمقراطي ومن خلفه حزب العمال الكردستاني عليها.
يبقى أخيراً أن نقول: إن المسار الإيجابي للعلاقات التركية – الأمريكية مؤخراً يرفع من مستوى القدرات والممكنات التركية، ولعله من ضمن العوامل التي رفعت الموقف التركي من مستوى التصريحات لمستوى القصف المباشر نهاية أكتوبر وبداية نوفمبر الماضيين، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن أنقرة قادرة على إنفاذ هذه الحلول، وأن واشنطن لن تعمل على فرملتها من جهة، ولا يعني أيضاً أن أنقرة قد تخلت تماماً ونهائياً عن فكرة مواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي ومشروعه بشكل كامل وشامل في مناطق شرق الفرات من جهة أخرى.
ما يمكن قوله: إن نفس المعادلة التي سادت سابقاً ما زالت قائمة وستستمر، أي أن موقف تركيا وقراراتها يعتمدان على تفاعل عدد من العوامل الميدانية والداخلية والخارجية، وبالتالي فالقرار يمكن أن يتغير بتغير تلك العوامل أو بعضها على الأقل في المستقبل القريب أو البعيد بما يهدف الإستراتيجية الرئيسة لمواجهة مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي في سورية.