دعا الإسلام إلى التأمل في الكون، والتزود بالإيمان عبر النظر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء، ودعانا للتأمل في الأنفس والآفاق لما بث في ذلك كله من آيات معجزة تدعو إلى تعزيز الإيمان والتقرب إلى الله تعالى.
كثير من الآيات القرآنية تدعو إلى التأمل في محاسن الخلق الإلهي، والتملي من طلعة الإتقان الرباني، والتفاعل مع آلاء الله في الكون والاستمتاع بصوره والانتفاع بجماله، نكتفي منها بقوله سبحانه وتعالى: (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ {6} وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ {7} تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ {8} وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ {9} وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ {10}) (ق).
هذه الآيات، وغيرها كثير تعد مدخلاً للعبور إلى الفنون وموقف الإسلام منها من خلال ما تؤديه من مقاصد، ونحن هنا لا نتعرض للأحكام الشرعية الحدية للفنون في الإسلام؛ فهذا له سياق ومقام آخر، وإنما نتحدث عن الوظائف والغايات التي تؤديها الفنون.
والفنون التي نعنيها هنا ليست -كما يظن بعض الناس- اللهو والعبث والمجون، وإنما نعني بها الوسائل التي يقصد منها تهذيب النفس وتربية القلب وتنمية الوجدان والتعبير عما يهم الإنسان من أمر دينه ودنياه، ومن هذه الوسائل: الأنشودة، وقصيدة الشعر، والقصة القصيرة، والرواية، والرسم، والنثر، والمسرحية، والمسلسل، والفيلم، والحِكَم، والتأمل في لوحات الكون البديعة، والتدبر في جماليات التشريع الإسلامي.. إلخ.
وعرف الأستاذ محمد قطب الفن فقال: «الذي يرسم صورة الوجود من زاوية التصور الإسلامي لهذا الوجود، وهو التعبير الجميل عن الكون والحياة والإنسان من خلال تصور الإسلام للكون والحياة والإنسان»(1).
ولقد عدد صالح أحمد الشامي للفن في كتابه «الفن الإسلامي التزام وابتداع» أنواعاً كثيرة، منها الرسم، وبلغ بمدارسه خمس عشرة مدرسة، ثم تحدث عن التصوير وفنون الزخرفة والخط، ثم تحدث عن فن العمارة، والفنون التطبيقية، وفن السماع، وفن الكلمة(2).. كل هذه أنواع من الفن تستلهم وظيفتها من تحقيقها لمقاصدها، وكلما اقتربت من مقاصدها الشريفة كانت أجدر بوصفها فنوناً جميلة، وإذا غادرت ذلك فليس لها أن تحظى بشرف هذا الوصف.
ولهذا قال الشامي: «والفن في التصور الإسلامي وسيلة لا غاية، والوسيلة تشرف بشرف الغاية التي تؤدي إليها؛ ولهذا فليس الفن للفن، وإنما الفن في خدمة الحق والفضيلة والعدالة، وفي سبيل الخير والجمال»(3).
الفنون.. والمقاصد الرشيدةلا يوجد شيء في هذه الحياة بلا مقاصد، وليس من شأن العقلاء أن يتصرفوا تصرفاً لا تكون له غاياته ومقاصده، ومن الجدير بالذكر أن بحوث العلماء في موضوع الفنون الجميلة وعلاقتها بمقاصد الشريعة قليلة، بل هي نادرة جداً، ومنها مثلاً كتاب د. محمد عمارة «الإسلام والفنون الجميلة»، ومنها أيضاً ما تناول الرئيس علي عزت بيجوفيتش في كتابه «الإسلام بين الشرق والغرب»؛ حيث كتب فيه فصلاً عميق المعنى حول الفنون الجميلة وفلسفتها ومعاييرها.
بيَّن د. عمارة في كتابه أن الفنون يجب أن تكون جميلة في ذاتها، وجميلة في تأثيراتها ووظائفها ومقاصدها، وأن “فنون الدعة والبطالة والتواكل، الاسترخاء والسطحية والتفاهة، غير فنون الحمية والعمل والعزم والانتماء والنهوض”، فالثانية فنون جميلة بناءة، والأولى فنون لكنها ليست جميلة بل هدامة، وهو يرى أن “الفن الجميل مهارة يحكمها الذوق الجميل والمواهب الرشيدة، لإثارة المشاعر والعواطف”.
وذهب د. عمارة أيضاً إلى أن خروج المهارات والفنون عن المقاصد الرشيدة يجردها من شرف الاتصاف بالجمال، واستشهد على ذلك بقول ابن سينا: “جمال كل شيء وبهاؤه هو أن يكون على ما يجب له”، وينتهي د. عمارة إلى أن الفن المتسق مع الإسلام هو الذي يحقق مقاصده في أمته وفي الإنسانية، عندما تشيع فيه الصبغة التي صبغت بها عقيدته وميزت بها أيديولوجيته إبداع الإنسان الفنان، إنها خيوط غير مرئية تلك التي تربط الوضع الإلهي بالإبداع الإنساني الجميل”(4).
وممن تحدثوا عن الفن ومقاصده صالح أحمد الشامي، فقال: وللفن في التصور الإسلامي غاية وهدف، إذ كل أمر يخلو من ذلك فهو عبث وباطل، والفن الإسلامي فوق العبث والباطل؛ فحياة الإنسان ووقته أثمن من أن يكون طعمة للعبث الذي لا طائل تحته، إن الغاية التي يهدف الفن الإسلامي إلى تحقيقها هي إيصال الجمال إلى حس المشاهد (المتلقي)، وهي ارتقاء به نحو الأسمى والأعلى والأحسن؛ أي نحو الأجمل، فهي اتجاه نحو السمو في المشاعر والتطبيق والإنتاج ورفض للهبوط(5).
للفنون –إذن، كما يقول د. إبراهيم البيومي غانم(6)- مهمات لا غنى عنها في كل حضارة من الحضارات وإن اختلفت مرجعياتها الفلسفية، أو تباينت غاياتها النهائية، وتكاد أغلب الرؤى الحضارية والفلسفية تشترك في أن أهم مقاصد الفنون تتمثل في:
1- تنمية العاطفة والوجدان.
2- تنمية مهارات الحواس وتدريبها على الإجادة والإتقان.
3- تحفيز الإنسان على الإبداع والابتكار وتأكيد الذات.
4- ضبط الانفعالات وترويض النزعات الجامحة ووضعها في حالة اتزان.
5- تقدير العمل اليدوي ومهارات الصناعة.
6- فتح المجال أمام الخيال واستثماره في خدمة الإنسان والعمران.
وكلها مقاصد تندرج تحت الإطار العام لمقاصد الشريعة، بل ربما تدخل الفنون بما هي وسيلة إلى باب العقائد ومقاصده، والعبادات ومقاصدها، والآداب ومقاصدها، والجهاد ومقاصده، والسياسة ومقاصدها، كل هذا بحسب موضوع الفن وما يتناوله، فهو وسيلة، وللوسيلة حكم مقصدها.
الفنون.. وراحة القلوبوجعل الإمام أبو الحسن الماوردي تنوع الفنون ونقل أقوال الحكماء وآداب البلغاء وأقوال الشعراء مما يريح القلوب ويبعدها عن السآمة والملل، ويعد التنوع من الوسائل التي تحقق مقاصد الفنون، فقال في مقدمة كتابه «أدب الدنيا والدين»: وقد توخيتُ بهذا الكتاب الإشارة إلى آدابهما –أي الدنيا والدين- وتفصيل ما أجمل من أحوالهما، على أعدل الأمرين من إيجاز وبسط، أجمع فيه بين تحقيق الفقهاء، وترقيق الأدباء، فلا ينبو عن فهم، ولا يدق في وهم، مستشهداً من كتاب الله جل اسمه بما يقتضيه، ومن سنن رسول الله صلوات الله عليه بما يضاهيه، ثم متبعاً ذلك بأمثال الحكماء، وآداب البلغاء، وأقوال الشعراء؛ لأن القلوب ترتاح إلى الفنون المختلفة وتسأم من الفن الواحد، وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن القلوب تمل كما تمل الأبدان، فاهدوا إليها طرائف الحكمة.. فكأن هذا الأسلوب يحب التنقل في المطلوب، من مكان إلى مكان، وكان المأمون رحمه الله تعالى يتنقل كثيراً في داره من مكان إلى مكان وينشد قول أبي العتاهية:
لا يصلح النفس إذ كانت مدبرة
إلا التنقل من حال إلى حال(7)
وهذا متفق مع نهج النبي عليه الصلاة والسلام الذي كان يتخول الصحابة بالموعظة مخافة السآمة عليهم، وهو منهج الصحابة والتابعين من بعده؛ فهذا أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: إني لأستجم لقلبي بالشيء من اللهو، ليكون أقوى لي على الحق.
ومما ينسب لعلي رضي الله عنه قوله: “روّحوا القلوب ساعة؛ فإنها إذا أكرهت عميت”، وعن قسامة بن زهير قال: “روحوا القلوب تعي الذكر”.
________________
الهوامش
(1) منهج الفن الإسلامي لمحمد قطب: 6. دار الشروق الطبعة السادسة. 1403هـ – 1983م.
(2) الفن الإسلامي التزام وابتداع لصالح أحمد الشامي: 100-400. دار القلم. دمش. النشرة الأولي. 1410هـ – 1990م.
(3) الفن الإسلامي التزام وابتداع لصالح أحمد الشامي: 39.
(4) الإسلام والفنون الجميلة للدكتور محمد عمارة: 7-11. دار الشروق. القاهرة. 1411هـ/1991م.
(5) الفن الإسلامي التزام وابتداع لصالح أحمد الشامي: 40.
(6) راجع: مقاصد الشريعة بمذاق الفنون الجميلة. مقال للدكتور إبراهيم البيومي غانم. مجلة حراء. عدد: (44). سبتمبر/أكتوبر 2014م، وقد نقلنا عنه ما كتبه عن عمارة وبيجوفيتش.
(7) أدب الدنيا والدين لأبي الحسن الماوردي: 13. دار مكتبة الحياة. بدون طبعة. 1986م.
(*) أستاذ في مقاصد الشريعة