في الوقت الذي تُجتث فيه أشجار الزيتون المباركة من أرض فلسطين، وتُحرق فيه حدائق أرض الشام، وتُقصف فيه مزارع النخيل في اليمن، وفي الوقت الذي يُرفض رفع مآذن المساجد في الغرب، تُنصب –في مكان غريب- أشجار الكريسماس في الشرق!
أخذت أرض عواصم عربية زخرفها وازّيَّنت بأشجار الكريسماس، وصور وتماثيل “بابا نويل”، في الأسواق والمولات والفنادق، في مشهد مهرجاني لم يَرقَ إليه الاحتفال بعيدي الفطر والأضحى، وإن كانت الأعياد مظهراً من مظاهر الانتماء الديني والحضاري، فلماذا هذا “التغريب” في الشرق؟ وإن كان للأجانب والنصارى من قومنا الحق في الاحتفال بمولد المسيح عليه السلام، رغم الاختلاف في زمن مولده كما سيأتي؛ فلماذا ينتشر في بلاد المسلمين لهذا الحد؟
استُخدمت الأشجار دائمة الخضرة للاحتفال بموسم الشتاء قبل ولادة المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، ويعتقد عموماً أن أول شجرة عيد الميلاد المسيحي يعود إلى ألمانيا في القرن الثامن، حين قدم «بونيفاس»، وهو مبشر إنجليزي في ألمانيا، شجرة «تنوب» مزينة (وهي الشجرة التي لا تزال تستخدم حتى الآن) لتكريم المسيح الطفل، كبديل للعرف الوثني من البلوط، ومنذ منتصف القرن السابع عشر وأشجار عيد الميلاد المزخرفة تزداد شعبية، وكان الناس يزينون قطعاً صغيرة من التنوب بالفاكهة والحلويات والشموع.
وفي بداية القرن التاسع عشر، بدأ تقليد شجرة عيد الميلاد فعلاً في الانتشار من ألمانيا إلى بلدان أخرى في أوروبا الشمالية، وكان الأمير «ألبرت» الألماني، زوج الملكة «فيكتوريا»، هو الذي شجع الناس في إنجلترا على وضع شجرة مزينة في المنزل خلال فترة الكريسماس.
وتعلو الشجرة نجمة، يزعم بعضهم أنها النجمة التي أرشدت الحكماء إلى مكان ميلاد المسيح، وهناك لونان أساسيان للاحتفال بعيد الميلاد، هما اللون الأخضر والأحمر؛ حيث يمثل اللون الأخضر استمرار الحياة خلال الشتاء، واللون الأحمر يرمز إلى دم المسيح!
من هنا ندرك أن الشجرة أصبحت رمزاً دينياً وإن كان مبتدعاً.
والآن يباع سنوياً ما يقرب من 36 مليون شجرة كريسماس خضراء في أمريكا (في عام 2016م بتكلفة 2.04 مليار دولار بالإضافة إلى 1.86 مليار دولار للأشجار الصناعية)، وفي أوروبا يصل عدد الأشجار إلى 75 مليوناً بتكلفة 3.2 مليار دولار(1).. أموال تكفي لإشباع الجوعى!
احتفال مسيحي مخترع
كما جاء في قسم الديانة المسيحية في «BBC”(2)، فإن «الأناجيل لم تذكر تاريخ ولادة عيسى عليه السلام، ولم يكن هناك يوم للاحتفال حتى القرن الرابع الميلادي حين قرر البابا «جوليوس الأول» تعيين 25 ديسمبر موعداً لعيد الميلاد، وكانت هذه محاولة لـ»تنصير» الاحتفالات الوثنية التي تجري بالفعل في هذا الوقت من العام، وفي عام 529م أصبح 25 ديسمبر عطلة مدنية، وعيد الميلاد ليس مجرد مهرجان مسيحي، فالاحتفال له جذور في عطلة عيد المنارة اليهودي، واحتفالات اليونانيين القدماء، والمعتقدات والعادات الشعبية في أوروبا»، هذا يؤيده دوائر المعارف البريطانية والأمريكية.
يذكر أنه في القرن الثالث الميلادي بدأ المسيحيون بترتيب خدام الكنيسة والجدال حول جدوى الاحتفال بميلاد المسيح، وكانت الاقتراحات تشمل 21 مارس و20 مايو، ولكن على سنة 336م تبنت الكنسية في روما التي اعترفت بها الإمبراطورية الرومانية يوم 25 ديسمبر(3).
وهناك من يعترض على هذا التاريخ من وجهة نظر تاريخية جغرافية، فإن بيت لحم في ديسمبر تكون الأجواء فيه باردة وممطرة وأحياناً ينزل فيها الجليد، وفي هذا الجو لا يخرج الرعاة ليلاً مع رعيهم؛ وبالتالي يصعب أن يخرج الناس في هذا الجو، كما ورد في إنجيل لوقا من أن ميلاده كان أثناء الاكتتاب وهو إحصاء الأفراد أو المواطنين في الأماكن الخاضعة لحكم الرومان؛ وبالتالي فإن طائفة تقول: إن الميلاد كان في أكتوبر، والبعض الآخر يحاول حساب الميلاد بالحساب العكسي من يوم الوفاة حسب عقيدتهم التي وفقاً لإنجيل يوحنا كان في 14 أبريل 33م، ولما بدأ دعوته في سن الثلاثين فإن ميلاده يكون في أوائل الخريف(4).
ومنذ بضع سنوات، قام مجموعة من علماء الفلك برسم صورة تحاكي صفحة السماء في زمان عيسى عليه السلام، حيث وجدوا أن هناك احتمالاً أن تكون نجمة عيد الميلاد التي اقتادت كهان المجوس في ذلك الوقت هي على الأرجح توحيد واضح لكوكبي الزهرة والمشتري، اللذين كانا قريبين جداً من بعضهما ويضيئان بشكل براق؛ وبالتالي نجد بعض علماء الفلك يُؤكدون أن تاريخ الميلاد كان في يوم 17 يونيو، أي في الصيف وليس الشتاء في العام الثاني قبل الميلاد(5).
وعيد الميلاد اختلف المسيحيون في موعده وانقسموا إلى فريقين، الأول يقول: إنه يوم 25 ديسمبر، والثاني (الأرثوذكس) يؤكد أنه 7 يناير، وكان العالم كله يحتفل بعيد الميلاد في يوم 25 ديسمبر حتى عام 1582م، عندما لاحظ علماء الفلك في عهد البابا «جريجوريوس الثالث عشر»، بابا روما، أن هناك خطأ في حساب طول السنة الشمسية اليوليانية، حيث هي أقل من طول السنة اليوليانية بفارق 11 دقيقة و14 ثانية، وبناء على ذلك انفصل مسيحيو الشرق (الأرثوذكس) عن مسيحيي الغرب (الكاثوليك والبروتستانت) في احتفالهم بعيد الميلاد، حيث وافق عام 1582م يوم 4 يناير، ولكي يضبط الفلكيون هذا الوضع أرسوا قاعدة تحتم حذف ثلاثة أيام كل 400 عام، ومرجع ذلك يعود إلى أن الفرق بين التقويمين بمرور الوقت إلى أن أصبح حالياً 13 يوماً، وأضحى موافقاً ليوم 7 يناير من كل عام، وسيظل هكذا حتى عام 2094م حينها سيوافق 8 يناير.
موسم تجاري
أصبح الكريسماس موسماً تجارياً باسم الدين، وكما توقع خبراء الاقتصاد فقد ارتفع إنفاق سكان بريطانيا في الكريسماس العام الماضي ليصل إلى 79 مليار جنيه إسترليني، ينفق ما يقرب من نصفها عن طريق الشراء بالإنترنت، وفي العام الماضي بلغت قيمة المبيعات للكريسماس في أمريكا 503 مليارات دولار(6).
ولعل اهتمام الغرب باحتفالات الكريسماس يخفي وراءه الكثير من علامات التراجع الديني المسيحي، وقد يكون الكريسماس اليوم الوحيد الذي يحتفلون به ظناً منهم بقدسيته الدينية، ونسبة الذين يعتقدون أن المسيح ولد من مريم العذراء هم 34% فقط، فيما تراجع عدد المنتظمين في أداء الطقوس الدينية الأسبوعية ضمن الكنيسة الإنجليكانية التي تنتمي إليها الملكة ومعظم الشعب من 1.6 مليون (3.5%) من البريطانيين عام 1970م إلى أقل من مليون (760 ألفاً) لأول مرة (2% من الشعب) عام 2016م(7).
مما جاء في فتاوى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث: ولا ننسى أن نذكر هنا أن بعض الفقهاء قد شددوا في مسألة أعياد غير المسلمين وأهل الكتاب والمشاركة فيها، ونحن معهم في مقاومة احتفال المسلمين بتلك الأعياد الدينية، كما نرى بعض المسلمين الغافلين يحتفلون بـ»الكريسماس» كما يحتفلون بعيد الفطر، وعيد الأضحى، وربما أكثر، وهذا ما لا يجوز، فنحن لنا أعيادنا، وهم لهم أعيادهم، ولكن لا نرى بأساً من تهنئة القوم بأعيادهم لمن كان بينه وبينهم صلة قرابة أو جوار أو زمالة، أو غير ذلك من العلاقات الاجتماعية، التي تقتضي حسن الصلة، ولطف المعاشرة التي يقرها العرف السليم(8).
وبعد.. فمع إيماننا بعيسى عليه السلام عبداً ورسولاً مباركاً، وهو ابن مريم العذراء، فهذه شجرة غريبة عن أرضنا، غربية ذات رموز دينية، ما إن يرها شخص إلا تذكر احتفالات الكريسماس المسيحية، لا بأس أن تظهر في الكنائس وبيوت النصارى في بلاد الإسلام تعايشاً واعترافاً، ولكن لا ترقى أن تكون علامة من علامات الشرق يطمع الطامعون أن تكون ثمرتها تمييع العقيدة وتذويب الهوية.
___________________________
الهوامش
- What the Christmas tree industrial complex looks like from space. Quartz. Archived from the original on 2017-12-24.
- Christmas is a Christian holy day that marks the birth of Jesus
www.bbc.co.uk/religion/religions/christianity
- Was Jesus really born on 25 December.
BBC iWonder. http://www.bbc.co.uk/guides/zwnsbk7
- Jesus’ Birth—Where and When?
www.jw.org/en/publications/books/jesus/events-up-to-jesus-ministry
- Jesus was born in June›, astronomers claim. The Telegraph 09 Dec 2008
- Shopping for Christmas 2017 – Centre for Retail Research
www.retailreserach.org
- Church of England weekly attendance falls below 1m for first time
The Guardian 12 January 2016
(8) المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، الدورة السادسة، أغسطس 2000، تهنئة غير المسلمين بأعيادهم.
(*) دكتوراه جامعة برمنجهام كاتب وأديب.