يعد عبدالعزيز البابطين من النماذج الكويتية المشرفة التي تمكنت من تحدي العقبات والصعاب وقهرها؛ حتى فتح لنفسه طريقاً فسيحاً في مجال الأدب والشعر، فقد جدّ في تعليم نفسه وتطوير أفكاره وإبداعاته؛ فحصل على 14 دكتوراه فخرية، وأنتج ثلاثة دواوين شعرية منطلقة من بيئته التي ترعرع فيها، وتوج كل ذلك بمؤسسة ثقافية رائدة هي مؤسسة “عبدالعزيز سعود البابطين الثقافية”.
ولم تقتصر اهتمامات العم عبدالعزيز البابطين على مجال الثقافة والأدب، بل امتدت إلى مجالات العمل الخيري والإنساني، وكذلك كانت له صولاته وجولاته مع القادة والسياسيين وصناع القرار على مستوى العالم.
“المجتمع” التقت العم عبدالعزيز البابطين الذي فتح لها قلبه من خلال هذا الحوار المطول الذي سننشر جانباً منه في هذا العدد، على أن يُنشر كاملاً على الموقع الإلكتروني للمجلة.
أهلا وسهلاً بكم في «المجتمع»، واسمح لنا في البداية أن تعطينا فكرة عن المكتبة، وكيف نشأت؟
– منذ بداياتي الأولى بمرحلة الطفولة كنت أجلس في الديوانية مع الوالد -يرحمه الله – ومع أخي عبداللطيف -حفظه الله ورزقه الصحة والعافية- الذي كان يأتي مع الشعراء في الديوانية ويستمع للقصائد التي يلقونها بين يديه، ومنذ ذلك الوقت وأنا أحلم وأمنّي نفسي بأن تكون لي بصمة في مسيرة الشعر العربي، وكنت آنذاك في السابعة من عمري.
كبرتُ وكبرتْ معي هذه الفكرة، وهذه الأمنية، إلى أن جمع أخي ديواناً للشعر النبطي، وكل الشعراء الذين جمع لهم هم الآن في ذمة الله سبحانه وتعالى، نسأل الله لهم الرحمة، وكان هذا الديوان مجموعة لأشعار نبطية سواء لهؤلاء الشعراء، أو هم رووه عمن كان قبلهم، وقد قمنا بطباعة هذا الديون، ولله الحمد، منذ سنوات عديدة، هذه هي الأمنية التي كانت في نفسي بذاك الوقت، وكبرتْ معي، وقد تحققت والحمد لله.
في العام 1985م، قررتُ إنشاء مؤسسة تحمل اسم “عبدالعزيز البابطين للإبداع الشعري”، وقبل تسميتها بهذا الاسم، كانت على اسم عمي الشيخ عبدالمحسن البابطين، الذي كان رئيس القضاء بالكويت في الثلاثينيات.
لكن د. عبدالمنعم خفاجي، وهو من مصر، وكان في ذاك الوقت رئيس جماعة “أبولو للشعر”، ذهب للأخ عدنان الشايجي، غفر الله له، وكان من الشعراء، وحينها لم نكن نعلم من هم الشعراء الذين يتقدمون الساحة الشعرية والثقافية، نجهل أسماءهم، ولا علاقة لنا بهم، لذا طلبنا منه أن يأخذ بيد هذه المؤسسة حتى تقف على أقدامها، وقد أخذ رقم هاتفي وتحدث معي، وفي ثنايا الحديث اقترح عليَّ أن تكون المؤسسة باسمي أنا “عبدالعزيز البابطين”، فقلت له: أنا غير معروف في الساحة الثقافية العربية، حيث إني رجل أعمال، ووجود اسم الشيخ عبدالمحسن البابطين فيها يعطيها نوعاً من الهيبة والقدرة؛ لأن عمي الشيخ عبدالمحسن كان شاعراً مجيداً، وهو معروف في الساحة الثقافية العربية، بالرغم من أن الإعلام في فترة الثلاثينيات وحتى الخمسينيات كان ضعيفاً، وكذلك كان البريد؛ لذا لم تكن هناك اتصالات، ومع ذلك فقد عُرف الشيخ عبدالمحسن البابطين في مصر وسورية والعراق والمملكة العربية السعودية والخليج، وهو أوسع مني ذكراً، ومعروف في الساحة الثقافية، ومع ذلك أصرّ على كلامه بأن يُطلق على المؤسسة اسمي، حتى يتحمس لها أولادي ويدعموها من بعدي، وبالتالي اقتنعت بوجهة نظره، وقمت بتحويلها إلى اسمي.
ومن الأمور المهمة التي تلبي رغبتي عندما تمنيت أن تكون لي بصمة في الشعر العربي وجود هذه المكتبة، وهذه المكتبة هي الأولى والوحيدة في العالم التي تحتوي جميع ما كُتب عن الشعر العربي، من دواوين شعرية، وشعراء من الأقدمين والمحدثين، والأبحاث التي تم صياغتها خدمة للشعر العربي، وهذه المكتبة جعلت من الكويت منارة ثقافية في العالم العربي.
لاحظ الناس أنك لا ترغب في إبراز عملك الخيري، وترغب في إبراز الشعر، رغم أن لكم جهوداً ببناء المدارس في بخارى وغيرها من مدن العالم الإسلامي، فما الهدف من وراء ذلك؟
– عندما ذهبنا مع بعثة سعود البابطين الكويتية للدراسات إلى الدول الإسلامية التي خرجت عن عباءة وهيمنة الاتحاد الروسي، وجدنا مسلمين تحيط بهم البدع البعيدة عن الإسلام، ويحيط بهم أيضاً الجهل بهذا الدين، ولديهم الرغبة العارمة في تعلم الدين الإسلامي، فرأينا أنه من الأولى أن نعلمهم اللغة العربية، في المكان الذي نستهدفه، حتى يستطيع المسلمون هناك أو شعوب هذه المنطقة أن يطلعوا على حقيقة الإسلام؛ لذا قمنا بتشكيل لجنة «بعثة سعود البابطين الكويتية للدراسات» من جماعات خيرية كويتية، لديهم الرغبة الكبيرة بأن يساهموا في العمل بهذا المجال؛ فكان من بين الجماعات التي قمنا باختيارها أ. عبدالعزيز العبدالرزاق المطوع، ود. العزيز خالد المذكور، ود. أنور اليحيى، وكان ملحقاً ثقافياً في موسكو، ود. عبدالله المحارب، رحمه الله، وذهبنا جميعاً كمنارات علمية وثقافية، وقد قدموا خدمات كبيرة في تلك المسيرة، التي استمرت إلى يومنا هذا، من عام 1974 إلى يومنا هذا، وقد أرسلنا إلى أمريكا ولندن وباريس.
وبعد التحرير مباشرة، أردنا أن نشكر الله قولاً وعملاً، فتوجهنا إلى الدول الإسلامية التي خرجت من هيمنة الاتحاد السوفييتي عام 1991م، وكان ذلك بمثابة فتح إسلامي جديد لهذه الدول، وكان لنا الشرف في أن من تخرجوا في هذه البعثة أكثر من عشرة آلاف طالب وطالبة، وكلهم الآن ينشرون الإسلام الذي ليس فيه إرهاب ولا عنف، وليس فيه إلا السماحة والسلام بحمد الله تعالى، وكان من بين هؤلاء الخريجين وزراء ودبلوماسيون، وسفراء، وعلماء، ومفتون، وكان هذا مكسباً ضخماً لسمعة الكويت الدولية.
كنا نسير “بعثة سعود البابطين الكويتية للدراسات” في أحد شوارع أوزبكستان بالملابس الوطنية، فاتجه إلينا خمسة أشخاص، عندما علموا بأننا عرب، وتحدثوا معنا باللغة العربية، فقلنا لهم: كيف تعلمتم اللغة العربية، فقالوا لنا: من بعثة سعود البابطين الكويتية للدراسات!
كيف كان شعوركم في هذه اللحظة؟
– اندهشنا وتأثرنا أيما تأثر! وفي إحدى المرات كنا في أذربيجان ودخلنا المسجد يوم الجمعة، فإذا بالخطيب يتحول إلى اللغة العربية، ويرحب بنا بأسمائنا، بالرغم من أننا كنا لا نعرفه، وطلب من د. المذكور أن يؤمنا في الصلاة ويلقي كلمة بعدها، وبالفعل أمّنا د. خالد، وألقى كلمته، ومن سماحتهم -أهل أذربيجان- وهم 45% من أهل السُّنة، و55% من الشيعة، أنهم جميعاً يصلون في مكان واحد وفي آن واحد وخلف إمام واحد.
وفي إحدى المرات، كلمني أحد الأشخاص وأنا في هذا المكان، فقال: أود القيام بزيارتك، فقلت له: أهلاً وسهلاً بك، فقال: هل يناسبك المجيء الآن، فقلت له: تفضل، فقال: أنا أحد طلابك في مصر، وهو من داغستان، والآن هو وزير بهذه الجمهورية، وقد جاء حاملاً رسالة من حكومته إلى الحكومة الكويتية.
وفي أحد الأيام، اتصل بي أحد الأشخاص، وقال: أنا سفير أوزبكستان في الرياض، وعرض عليَّ تقديم خدماته، فما عليَّ إلا إرسال بطاقة تعريفية بشخصي، وبمجرد رؤيتها سيُقدم خدماته لحاملها مباشرة، تكريماً لي.
والحمد لله، الكثير من خريجي مدارسنا أصبحوا في مناصب عليا على كافة الصعد والمستويات.
بالنسبة لعلاقاتكم بالأزهر الشريف، هل ما زال مشروع دعمكم لبعض الطلاب الذين يدرسون فيه قائماً؟
– بحمد الله ما زال قائماً، وقد توسعنا في أفريقيا، بحيث يأتي الطلاب من دول أفريقيا المختلفة إلى القاهرة للدراسة على نفقتنا وبدعمنا.
كيف كانت علاقتكم مع العم الراحل د. عبدالرحمن السميط يرحمه الله؟
– كان رجلاً مخلصاً وعملياً، وقمنا بتكليفه ببناء عدة مدارس في أفريقيا، وكان يمتاز بالمصداقية والتفاني في العمل الخيري، فقد أنشأنا على يديه ثلاث مدارس في مالي، وفي المغرب الشقيق مدرستين ثانويتين، وبالرغم من كوننا مؤسسة ذاتية ولدينا الكوادر المختلفة، فإننا قمنا بالاستعانة بالدكتور عبدالرحمن السميط لتنفيذ بعض المشاريع التابعة لنا في أفريقيا.
كما أن أخانا د. عصام الفليج كان له برنامج “سفراء الخير”، وقد ذهب للمغرب ومصر وبعض الدول الأفريقية، وقام بتصوير مدارسنا وطلبتها وعرضها عبر برنامجه.
كان لكم برنامج عند زيارتكم إلى إسبانيا، وحديثكم مع الإسبان وعدم معرفتهم باللغة العربية، هل من الممكن أن تعطينا نبذة عن هذه القصة؟
– كان ذلك عام 1977م، حيث ذهبت أنا وعائلتي -زوجتي وأولادي- إلى الأندلس (إسبانيا)، وكنت فخوراً بأن أجدادنا هم الذين صنعوا هذه الحضارة العظيمة، وفوجئنا بأن المرشدين السياحيين يقولون: إن هذا الصرح بناه مسيحي، وهذا المحراب بناه يهودي، ولم يكن للعرب والمسلمين ذكر في كلامهم؛ لذا قررت أن أقوم بفعل شيء لإحقاق الحق، وتوضيح الأمور للناس، وفي عام 2004م ذهبنا كشعراء (400 شاعر)، وعملنا دورة «ابن زيدون»، وكنا في قصر الحمراء نصعد الدرج مع ضيوفنا الشعراء، وإذا بسيدة أمريكية تسأل المرشد وتقول له: لماذا بنى الخليفة هذا الصرح الذي استمر 850 عاماً؟! فقال لها: كان للخليفة 42 جارية، وإحداهن جميلة جداً، وطلبت منه في إحدى الليالي أن يبني لها قصراً في الزهراء، فبنى لها مدينة الزهراء كاملة، وكانت المسافة بين قرطبة والزهراء نحو 4 كيلومترات، وقد حقق مطلب الجارية! وفي عام آخر، طلبت منه إحدى الجواري الحسان أن يبني لها مدينة غرناطة؛ فبنى لها قصر الحمراء وما حوله!
ولكن الحقيقة التاريخية تذكر أنه حينما اتسعت دولة الأندلس الإسلامية؛ تمددت واتسعت بالتالي العاصمة قرطبة، ففكر الخليفة وبنى مدينة على بُعد 4 كيلومترات عن العاصمة؛ حيث علم أنه مع مرور الوقت ستتسع العاصمة وتتمدد ومن ثمّ يتم الالتحام بين المدينتين، وكان من الطبيعي أن يترك تلك المسافة بين المدينتين، وهذا ينم عن نظرة ثاقبة في المستقبل.
فلاحظ الفرق بين ما قاله المرشد وهو غير صحيح، وما ذكرته كتب التاريخ والوقائع التاريخية.
لذا قررتُ حينها أن أعمل على تصحيح الوقائع التاريخية المغلوطة، فتعاونتُ مع رئيس جامعة قرطبة، الذي أعلن أنه من أصول عربية وإسلامية أندلسية، وأنه مسلم من أسرة مسلمة قد تحوّلت للمسيحية ظاهرياً نظراً للظروف التي كانت سائدة في ذاك الوقت، فإذا بي أنظر إليه وكأنه رجل جاء من العاصمة السورية دمشق بالأمس، وهو عربي مائة بالمائة، حتى إنه في إحدى الأمسيات وبينما هو في الافتتاح ذكر أنه من أصول عربية وإسلامية، وأنه مسلم، فقلت له عقب نزوله من المنصة: أنت قلت هذا الكلام مرتين، فقال: وما زلت أقوله، فقلت له: لماذا تسكت عن هذا الظلم البيّن الذي يتعرض له التاريخ العربي الإسلامي في إسبانيا، وأنت على رأس أعلى سلطة ثقافية في إسبانيا؟ فقال: ماذا أستطيع أن أفعل؟ وماذا تطلب مني فعله؟ فقلت له: عليك بالاستعانة باثنين من أساتذة التاريخ الكبار في التاريخ الأندلسي، أحدهما عربي، والآخر إسباني، لكي يقوما بإلقاء محاضرات تاريخية وثقافية للمرشدين السياحيين الإسبانيين، وقلت له: كم عدد هؤلاء المرشدين؟ فقال: 118 مرشداً سياحياً، فقلت: نعمل لهم دورة من شهرين إلى أربعة أشهر، وعند التنفيذ استمرت 7 أشهر؛ نظراً لتحويلها إلى دورة متكاملة الجوانب والأركان.
وطلبتْ مني جامعة غرناطة الأمر نفسه، وتم استحداث كرسي “البابطين للغة العربية” وهو مستمر منذ عام 2005م وإلى اليوم، وقد استفاد منه الكثير من طلبة وطالبات الجامعة، بالإضافة إلى دورة المرشدين التي استمرت 7 أشهر، والآن عندما تذهب إلى إسبانيا وتكون في صحبة المرشدين السياحيين ستسمع كلاماً يجعلك تعتز بعروبتك وإسلامك.