القيم هي المنظومة الداخلية التي تزود الإنسان بالمعايير التي يميز بها بين الصواب والخطأ، والحسن والقبيح، والمقبول والمرفوض، وهي الدرع الواقية التي تحميه من الوقوع في الأخطاء أو الانزلاق في الشبهات والشهوات، وهي الدافع الذي يحثه على التحلي بالخير والفضيلة والسلوك القويم، وهي الرقيب الذي يدفعه للقيام بواجباته بفاعلية وإتقان، وهي التي تزوده بعناصر القوة الفاعلة والنجاح والتميز في الحياة.. هذه بعض الأدوار التي تقوم بها القيم في تشكيل شخصية الإنسان، وفي رسم ملامح هويته الذاتية.
الإنسان لا يولد مزوداً بمنظومة القيم، ولكنه يتعلمها ويكتسبها من خلال عملية اجتماعية تربوية مقصودة، تعتمد على التفاعل بين أفراد أسرته ومجتمعه، ويؤدي الآباء الدور الأبرز والأهم في بناء هذه المنظومة، خاصة في مراحل العمر الأولى، التي تمثل أهم المراحل في غرس القيم وبنائها لدى الأولاد.
فكيف يبني الآباء منظومة القيم لدى أولادهم، التي يبدأ تكونها داخل الطفل منذ نعومة أظفاره، وتنمو معه يوماً بعد يوم؟
مقومات النجاح:
1- الحب والتفاهم:
يعد الحب والتفاهم بين الأطفال وآبائهم من أهم مقومات غرس القيم لديهم، فالطفل يتمثل قيم من يحب، والعلاقة الدافئة تمرر اكتسابه للقيم بيسر ودون عناء.
2- البدء مبكراً:
من الضروري البدء في غرس القيم لدى الطفل مبكراً، ففي السنوات الست الأولى من عمره يكتسب معظم القيم.
3- مراعاة طبيعته:
لا بد أن يختار الآباء الطرق والأساليب التي تناسب عمر الطفل وطبيعة شخصيته في غرس القيم.
4- الوقت المناسب:
من المهم اختيار الوقت والظرف المناسبين، فليس من المقبول مثلاً أن يؤكد الآباء قيمة ما في وقت يكون فيه الطفل غير مستعد لذلك، أو يكون هناك توتر في العلاقة بينهما.
5- إبداء الأسباب:
من الأمور التي تساعد على ترسيخ القيم لدى الأطفال أن يوضح لهم الآباء الأسباب التي تكمن وراء رفض سلوك ما أو قبول آخر؛ لأن في ذلك مخاطبة لعقولهم وبناء لقناعاتهم الذاتية نحو هذا السلوك.
6- تقبل الأخطاء:
لا بد أن يلتمس الولدان له العذر، وأن يتفهما ما يصدر منه من تجاوزات، فمن الطبيعي أن يواجه مشكلات عديدة وأن يقع في أخطاء متنوعة.
7- الصبر وعدم التعجل:
ينبغي ألا يتعجل الوالدان في رؤية الطفل ملتزماً بالقيم تمام الالتزام، فالقيم تُبنى في النفس بشكل متراكم وخلال مدى زمني طويل.
8- بيئة داعمة:
يجب الحرص على توفير بيئة داعمة لبناء القيم لدى الطفل؛ وذلك بالعمل على اختيار المدرسة المناسبة، وإيجاد الصحبة الصالحة، وربطه بالمسجد، ومحاولة استصلاح البيئات غير المناسبة التي لا يمكن الاستغناء عنها.
9- تنويع الوسائل:
من الضروري تنويع الوسائل والأساليب التي تستخدم في عملية الغرس، فتكرار القيم بوسائل متنوعة -بحيث تؤثر في العقل والوجدان والسلوك- يعمقها في نفسه، كما يساعد على مراعاة الفروق الفردية بين الأطفال.
خطوط حمراء:
1- تجنب التعارض:
ينبغي الحذر من التعارض بين الوالدين في توجيه الطفل، كأن يشجعه الأب على القيام بسلوك ما، بينما تقابل الأم هذا السلوك بالرفض، فهذا يوقع الطفل في حيرة، ويفقده القدرة على التمييز بين المقبول والمرفوض، فضلاً عما قد يصيبه من أضرار نفسية.
2- لا للمقارنة:
ينبغي الابتعاد عن استخدام مقارنة الطفل بغيره كوسيلة لغرس قيمة ما؛ لأن ذلك يخلق لديه حالة من النفور تجاه هذه القيمة، وتجاه الشخص الذي يقارِن، وتجاه الشخص المقارَن به.
3- عدم الملاحقة:
الابتعاد عن الإلحاح والملاحقة للطفل بالتوجيهات والتعليمات والأوامر المستمرة؛ لأن هذا قد يدفعه إلى رفضها وعدم تبنيها، أو قد يؤدي إلى إصابته بحالة مرضية من الوسوسة وجلد الذات.
4- تجنب القهر:
يجب الابتعاد تماماً عن استخدام القهر والعنف؛ لأن ذلك يجعل التزامه بالقيم التزاماً شكلياً، يتقي به ردود الأفعال السلبية للآباء تجاهه، دون اكتساب حقيقي للقيم.
5- عدم الوصم:
على الآباء تجنب وصم الطفل بأوصاف سلبية، مثل: كذاب، مهمل، أناني، سلبي.. إلخ؛ لأن ذلك يدعم القيم السلبية في شخصيته، ويفقده الثقة في القدرة على اكتساب القيم الإيجابية.
وسائل عملية:
1- القدوة العملية:
تعد القدوة العملية هي الوسيلة الأكثر اختصاراً وتوفيراً للجهد والوقت، والأكثر عملية وتأثيراً في غرس القيم لدى الطفل؛ لأنه يكتسب معظمها من خلال المحاكاة والتقليد، كما أنه ليس من المعقول أن يغرس كاذب في طفله قيمة الصدق، أو أن يغرس غشاش قيمة الأمانة.. إلخ، ففاقد الشيء لا يعطيه، فعلى الآباء أن يكونوا قدوة حية صالحة لأبنائهم.
2- الحوار الهادئ:
الحوار الهادئ المقنع من الوسائل التي تساعد على ترسيخ القيم في نفس الطفل، ومن المهم أن يتضمن تعريفه بما سيعود عليه من خير في الدنيا وأجر في الآخرة نتيجة التزامه بهذه القيم.
3- إثارة التفكير:
تؤدي إثارة التفكير دوراً مؤثراً في تهيئة الطفل واكتسابه للقيم الإيجابية، وذلك من خلال طرح فكرة أو سؤال أو استثمار موقف ما لإثارة تفكيره حول قيمة ما، ثم إدارة نقاش معه حولها، فمثلاً لغرس قيمة حب الخير لديه، يمكن استثمار قوله: إن الأطفال الفقراء لا يملكون الكثير من اللعب، وذلك بالاهتمام بالفكرة ومناقشته حول الطرق المختلفة لتقديم المساعدة والدعم لهم.
4- استثمار المواقف:
من المفيد في غرس القيم استثمار المواقف والأحداث التي يمر بها الطفل أو أحد أفراد الأسرة أو غيرهم لفتح حوار حول القيمة المتعلقة بكل موقف من هذه المواقف وإدارة نقاش حولها، فإذا كنتم مثلاً في الطريق ورأيتم شخصاً فقيراً أو مريضاً أو مكفوفاً.. إلخ، فيمكن الحديث معه -بطريقة مناسبة له- عن فضل الله علينا وما نتمتع به من نِعَم ربما لا يجدها الآخرون؛ محاولاً بذلك دعم قيمة الرضا والقناعة لديه.
5- القصص والحكايات:
تعد القصة واحدة من أهم وأفضل الوسائل في غرس القيم لدى الطفل، حيت تستحوذ على انتباهه، فيتابعها بمتعة وشغف وتركيز وانفعال، فتتسلل -بما فيها من قيم ومعانٍ وأفكار وسلوكيات- إلى أعماق نفسه دون استئذان أو مقاومة، فتترك أثراً عميقاً ممتداً في شخصيته.
6- اللعب مع الأقران:
من المهم تهيئة الفرصة للطفل وتشجيعه على مشاركة رفاقه في الألعاب الجماعية؛ لأن اللعب الجماعي من أهم الوسائل التي تساعد على اكتساب العديد من القيم، مثل: التعاون، تحمل المسؤولية، الأمانة، النظام، الإيجابية، الصبر، المثابرة.. إلخ، فمثلاً أثناء اللعب يكون مسؤولاً عن القيام ببعض الأدوار والمهام، التي إن اجتهد في القيام بها انعكس ذلك على فريقه بصورة إيجابية، وإن قصر في أدائها كان سبباً في تأخر فريقه وربما خسارته، وهذا يعلمه تحمل المسؤولية.
7- ممارسة الأدوار:
مما يساعد على غرس القيم لدى الطفل أن يشارك في تمثيل بعض المشاهد التمثيلية التي تدعو إلى قيمة ما، وأن يُسند إليه دور صاحب القيمة الإيجابية، ويمكن أن تُنفذ هذه المشاهد بمشاركة أفراد الأسرة أو أقارنه، كما يمكن استخدام العرائس في ذلك.
8- مقاطع الفيديو:
من الوسائل التي تدعم القيم في نفس الطفل أن يشاهد مقاطع الفيديو من الكارتون أو غيره، التي تحتوي على قيم إيجابية، ويزيد من أثرها الإيجابي أن يفتح الآباء معه نقاشاً حولها أثناء المشاهدة وبعدها، فمثلاً يمكن مشاهدة مقطع فيديو يبرز احتياجات الفقراء، ويبين الأجر والنفع الذي يعود على من يبذل الخير للناس، ثم يتم فتح حوار معه حول هذه المشاهدة، فهذا يدعم لديه قيمة فعل الخير.
9- الأغاني:
فالاستماع مع الطفل لبعض الأغاني التي تحث على قيمة ما، وإعادة غنائها معه، ثم مناقشته حولها يساعده على التحلي بها.
10- الممارسة العملية:
من الضروري تشجيع الطفل على ممارسة بعض الأعمال التي تساعده على التحلي بالقيم، فالطفل لن يكتسب القيمة دون أن يبذل الوالدان جهداً في تدريبه وتعويده على ممارستها في مواقف مختلفة، فمثلاً لغرس قيمة تحمل المسؤولية لديه يمكن تشجيعه وتعويده على: ترتيب فراشه وأدواته ولعبه، مشاركته في تحضير المائدة، وضع ملابسه وأدواته في أماكنها بعد عودته من الخارج، ذهابه لشراء بعض حاجات المنزل من الأماكن القريبة، قيامه بواجباته المدرسية معتمداً على نفسه.. إلخ.
11- الثواب والعقاب:
يعد الثواب والعقاب من الوسائل المهمة في بناء القيم لدى الطفل؛ ذلك أن الثواب المناسب الذي يناله حين يقوم بسلوك إيجابي، يدعم هذا السلوك في نفسه، ويدفعه إلى تكراره، حتى يصبح أسلوب حياة وعادة سلوكية ثابتة لديه، وفي المقابل، فإن السلوك الذي يعاقب عليه بطريقة مناسبة ومنضبطة يعمل على ضعف وانطفاء السلوك السلبي لديه.