ألمع ما نجد من صفحات المرأة المسلمة في التاريخ حين تظلم صفحة الرجال وتسودّ سيرتهم، وإن المرء ليمرّ بصفحة التاريخ فيجد فيها انكساراً تاماً وعاماً يورث حزناً وكآبة، إلا تلك البروق اللامعة لمواقف المرأة المسلمة، وقد تكررت هذه الحال في أزمنة النكبات والهزائم، وتجمع لديّ من أخباره ما يستحق أن يفرد في كتاب.
وكنت قد أشرت إلى طرف من هذا في مقال سابق بعنوان «سيوف الإسلام الخفية» نشرته قبل عشر سنوات، عن دور المرأة المسلمة المخلصة لدينها، وكيف أنها لما هُزِم الرجال وسيقت سبيَّةً لدى المغول، كان من جهادها الخفي في الدعوة وتربية الأبناء ما أثمر في النهاية أن دخل المغول في الإسلام، بإسلام أبنائهم من المسلمات، أو أبنائهم الذين تولت المسلمات تربيتهم، ثم صاروا بعدئذ ملوكاً! كان هذا واحداً من أهم أسباب تحول المغول إلى الإسلام بعد اجتياحهم العالم الإسلامي.
في أقصى الغرب الإسلامي، بالأندلس؛ التي نُكِبت وطورد فيها الإسلام داخل الصدور، واستعمل في ذلك أبشع وأشنع وسائل التعذيب عبر محاكم التفتيش الرهيبة التي كانت واحدة من أسوأ المخازي في التاريخ الإنساني، في تلك الصفحة السوداء، نرى من مجد المرأة المسلمة مواقف ساطعة في الجهاد والتربية والتعليم والحفاظ على الدين.
يُعزى تمسك الأندلسيين بدينهم وصبرهم عليه رغم قوة المطاردات إلى قدرتهم على الاحتفاظ بتماسكهم الداخلي، في بيوتهم وحياتهم الخاصة؛ حيث ظلت التقاليد الإسلامية متينة داخل البيوت، وهذه المهمة كانت المسلمة هي من تحمل القسم الأعظم من عبئها، لقد تسربت إلى سجلات محاكم التفتيش العديد من الحكايات التي استخلصها المحققون والمخبرون من الأطفال، هذا يقول: أحب محمداً أكثر من أي شيء لأن جدتي علمتني هذا، وهذا يقول لجارته المسيحية: لا تخبري أمي أني أكلت عندك لحم خنزير فستجلدني لو علمت.
وكانت عادات الزفاف والولادة والدفن للنساء مما قامت به المرأة المسلمة، كما أن المسلمة هي التي علمت ابنها الوضوء والاغتسال والصلاة والصيام، وقد رسخ هذا في مجتمع المسلمين لقرون طويلة، حتى إني كنت قبل أيام أشاهد فيلماً وثائقياً بعنوان «البحث عن جذوري الموريسكية»، وفيه ذكرت امرأة إسبانية أن زوجها حين أسلم علَّموه الاغتسال، ففوجئ بأن هذا هو نفسه الاغتسال الذي تعلمه صغيراً من أمه!
لقد كانت المسلمة الأندلسية المصدر الأول لتعلم شعائر الدين، وسجلت محاضر «محاكم التفتيش» أن المتهم غالباً ما يكون قد تعلم الدين من إحدى نساء عائلته، بل وتحركت المرأة الأندلسية مع زوجها بين القرى والمناطق لتدعو النساء وتعلمهن دينهن، وفي بعض المناطق والأحياء كانت المسلمات المتهمات بممارسة الإسلام والدعوة إليه هن العدد الأكبر من مجموع المتهمين الذين يُحاكمون أمام «محاكم التفتيش».
معركة الحجاب
إن حفاظ المرأة المسلمة على حجابها وحيائها مما يثير غيظ أولئك الذين يعادون الدين، وهذه المعركة لا تزال قائمة حتى الآن، يبدو الحجاب وما يعبر عنه من الحياء دليلاً على الفشل في إخراج الإسلام من قلب المسلمة، لذلك فإن كل سلطة قهرت المسلمين أصدرت القوانين التي تشجع على السفور أو تفرضه فرضاً، منذ «شارل الخامس» وحتى الحكومات المعاصرة.
رأى إسباني أندلسية لا تزاحم الرجال على شراء الكمثرى، فقال لها: «تقدمي أيتها الكلبة، فلن يلتهموكِ»! (نفس المقولة مستمرة حتى الآن: لن يلتهموكِ!)، وقد دافع عنها مسلم ما لبث أن سيق إلى محكمة التفتيش!
كذلك ساعدت الأندلسية المسلمة الرجال في المعارك والثورات التي خاضوها ضد السلطة الإسبانية، وسجلت في هذا مواقف مشهودة وتضحيات باسلة، بل إن بعضهن أشرف على الحسابات المالية لمجموعات مسلمة، كما علمت أخريات على إعاقة وتضليل قوات «محاكم التفتيش» التي تقصد القبض على مسلم، أو عملت المرأة على تحذير المتهم الذي تجري مراقبته، وغير ذلك من أعمال الدعم والإسناد المادي في المجتمع المستضعف المظلوم، وبالعموم يتحدث المؤرخون عن أن المرأة المسلمة كانت الأقل ذوباناً في الهوية المسيحية، بل يصرح بعضهم أن «ثبات الإسلام في منطقة بعينها له علاقة مباشرة تناسبية مع عدد النساء المتهمات».
بعض النساء كان لديها من الشجاعة والجرأة ما جابهت قضاة «محكمة التفتيش»، وأعلنت أمامهم أنها مسلمة، وتفخر بهذا، وأنها تتألم لكونها لم تتعلم شعائر الإسلام، ولو تعلمتها لأقامتها، وأنها تؤمن بالله وبمحمد وبالقرآن.
ومن النساء من استطاعت تضليل قضاة «محاكم التفتيش» أكثر من مرة، فحوكمت ثم عوقبت ثم اكتشف أنها لا تزال مسلمة ثم عوقبت مرة أخرى حتى أحرقت في نهاية الأمر، وأحياناً كانت الأمهات صمام الأمان لما يحدث في البيت، ففي قصة ابن عبدالرفيع الأندلسي كان أبوه يعلمه الدين سراً، ثم تحاول أمه استدراجه في الكلام لكي تتثبت من قدرته على الكتمان وحفظ السرّ، وبقدر ما يبدي من هذا الحزم، بقدر ما يُطمَأنُّ إليه، فيزيدون في تعليمه الدين، هذه القصة رواها هو بنفسه في كتابه من بعد ما استطاع الفرار إلى تونس.
رافد للإسلام
وفوق ذلك، استطاعت بعض النساء أن تكسب للإسلام عدداً من الإسبان، تورد المصادر قصة أندلسية زُوِّجَت من مسيحي إسباني، وهو ما كان عادة بطريق الإجبار، لكنها استطاعت أن تقنعه بالذهاب إلى الجزائر، ولما وصلا هناك أعلنت إسلامها، واشترطت أن يُسلم إذا أراد البقاء معها، وأسلم زوجها وبه نَجَت من جحيم «محاكم التفتيش» والمطاردة، واحتفظت بدينها ثم كسبت إليه نفساً جديدة(1).
لا يتسع المقام لسرد كثير من التفاصيل، مع أن العظمة لا تظهر إلا في قراءة الحكايات بتفاصيلها، لكن التأمل في تربية طفل واحد في بيئة بهذه الخطورة والشراسة يقطع بأنه عمل عظيم، عمل لا يملك جزاءه إلا الله تبارك وتعالى.
وفي النهاية، لا يعني ما سبق أن كل المسلمات كنَّ هكذا، بل منهن من فُتِن، ومنهن من تشربت المسيحية حتى أخلصت لها، ومنهن من امتنعت عن تعلم الإسلام والعربية، إلا أن هذا هو الأمر الطبيعي الذي تسوق إليه طبيعة عوامل القوة والضعف في المجتمع، إنه ليس مثيراً ولا لافتاً للنظر أن يخضع الضعيف للقوي حتى يُسْتَلَب وينهزم روحياً وفكرياً بعد هزيمته العسكرية، إنما المثير المدهش الذي يلتفت إليه التاريخ والذي يمثل برقاً زاهراً في الظلمة الحالكة؛ هو قدرة الضعيف على الصمود وتمسكه بدينه ومبدئه في ظل أعتى الهزائم وفي أشد الظروف.
إن الأمر يتعلق بالتربية والتنشئة والتقوى التي يحفظها المرء في العافية فيجدها في المحنة، فالذي يحرص على الدين في السلامة والسعة يعينه الله على الشدة والفتنة، وأما الذي لا يهتم لأمر الدين ويفرط فيه، فلا يلبث هذا أن يُفتن ويتحول! وهذا في المرأة كما هو في الرجل.
____________
الهامش
(1) للتوسع في جهاد المسلمة الأندلسية بعد سقوط الأندلس، يُنظر على سبيل المثال: خوليو كارو باروخا، مسلمو مملكة غرناطة بعد عام 1492، ترجمة: د. جمال عبد الرحمن، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2003م)، ص33، 134، 148، 164، 177؛ عبد الجليل التميمي، دراسات جديدة في التاريخ الموريسكي، (زغوان: مؤسسة التميمي، يوليو 2000م)، ص78؛ مرثيدس غارثيا أرينال، محاكم التفتيش والموريسكيون: محاضر محكمة كوينكا، ترجمة: خالد عباس، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2004م)، ص 42 وما بعدها، 58 وما بعدها، 66، 83 وما بعدها، 94، 95، 100، 120؛ وقد عني المؤتمر المؤتمر العالمي السابع للدراسات الموريسكية (زغوان: 16-20 مايو 1995م) بأحوال المرأة والأطفال، ونشرت أعماله.