إنه «دين» مُسْتَسْلِمٌ لما يريده أعداء هذه الأمة؛ حيث يضربون الآن بكل قوة في ثوابت هذه العقيدة، ومعاقد هذه الشريعة، ومحكمات هذا الدين، بعد أن فشلوا في محاولاتهم المتواصلة الحثيثة في حصر الإسلام في المساجد والطقوس والشعائر، وإبعاده عن مجالات الحياة وقيادة حركتها، ها هم اليوم ينفقون أموالهم بالمليارات ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً، لكي يفرضوا «ديناً» لم يأتِ به محمد صلى الله عليه وسلم، ولا عرفه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، ولكنهم حتماً سيفشلون ما دمنا قائمين على ديننا حارسين لحقائقه وتعاليمه كما وعد الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾ (الأنفال: 36).
وقد تجلت هذه الرغبة المدروسة في صور متعددة، منها: الضرب في ثوابت الشريعة والمعلوم من الدين بالضرورة مرة، ومرة أخرى بالتشكيك في السُّنة وأكابر رواتها ومحققيها، ومرة ثالثة بالترويج لدعاة ينسبون أنفسهم للعلم لا يعلمون من القرآن الكريم إلا رسمه، ولا من الإسلام إلا وسمه؛ يلبِّسون على الناس دينهم، ويقذفون بالشبهات المزيَّنة في عقولهم، ومرة رابعة بالدعوة لتصوف ينزع من الإسلام حيويته وتربيته ودعوته وجهاده؛ ليكون إسلاماً روحانياً مستأنساً لا حراك له ولا جهاد فيه.
ملامح «الدين» الجديد
تتضح بعض ملامح هذا الدين الجديد الذي يريدون فرضه علينا في التقرير الذي أصدرته مؤسسة «راند» (RAND) البحثية التابعة للقوات الجوية الأمريكية -التي تبلغ ميزانيتها السنوية قرابة 150 مليون دولار– الذي صدر في 26 مارس 2007م، ويقع في 217 صفحة، مكوناً من عشرة فصول، بشأن التعامل مع المسلمين، وليس الإسلاميين فقط مستقبلاً(1)!
وهذا التقرير لا تنبع خطورته من جراءته في طرح أفكار جديدة للتعامل مع المسلمين وتغيير معتقداتهم وثقافتهم من الداخل فقط تحت دعاوى الاعتدال بالمفهوم الأمريكي، وإنما يطرح الخبرات السابقة في التعامل مع الشيوعية للاستفادة منها في محاربة الإسلام والمسلمين وإنشاء مسلمين معتدلين! ولهذا «الاعتدال الأمريكي» محددات وشروط معينة من تنطبق عليه فهو «معتدل»، وفقاً للمفهوم الأمريكي للاعتدال، ومن لا تنطبق عليه فهو متطرف.
ووفقاً لما يذكره التقرير، فالتيار (الإسلامي) المعتدل المقصود هو ذلك التيار الذي:
1- يرى عدم تطبيق الشريعة الإسلامية.
2- يؤمن بحرية المرأة في اختيار «الرفيق»، وليس الزوج.
3- يؤمن بحق الأقليات الدينية في تولي المناصب العليا بالدول ذات الغالبية المسلمة.
4- يدعم التيارات الليبرالية.
5- يؤمن بتيارين دينيين إسلاميين فقط، هما: «التيار الديني التقليدي»؛ أي تيار رجل الشارع الذي يصلي بصورة عادية وليست له اهتمامات أخرى، و»التيار الديني الصوفي»؛ يصفونه بأنه التيار الذي يقبل الصلاة في القبور!
والطريف هنا أن الدراسة تضع 11 سؤالاً لمعرفة من هو تعريف «المعتدل» -من وجهة النظر الأمريكية- وتكون بمثابة اختبار يعطي للشخص المعرفة إذا كان معتدلاً أم لا؟ وهذه المعايير هي:
1- أن الديمقراطية هي المضمون الغربي للديمقراطية.
2- أنها تعني معارضة «مبادئ دولة إسلامية».
3- أن الخط الفاصل بين المسلم المعتدل والمسلم المتطرف هو تطبيق الشريعة.
4- أن المعتدل هو من يفسر واقع المرأة على أنه الواقع المعاصر، وليس ما كان عليه وضعها في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
5- هل تدعم وتوافق على العنف؟ وهل دعمته في حياتك من قبل أو وافقت عليه؟
6- هل توافق على الديمقراطية بمعناها الواسع؛ أي حقوق الإنسان الغربية (بما فيها الشذوذ وغيره)؟
7- هل لديك أي استثناءات على هذه الديمقراطية (مثل حرية الفرد في تغيير دينه)؟
8- هل تؤمن بحق الإنسان في تغيير دينه؟
9- هل تعتقد أن الدولة يجب أن تطبق الجانب الجنائي من الشريعة؟ وهل توافق على تطبيق الشريعة في جانبها المدني فقط (الأخلاق وغيره)؟ هل توافق على أن الشريعة يمكن أن تقبل تحت غطاء علماني (أي القبول بتشريعات أخرى من غير الشريعة)؟
10- هل تعتقد أنه يمكن للأقليات أن تتولى المناصب العليا؟ وهل يمكن لغير المسلم أن يبني بحرية معابده في الدول الإسلامية؟
وبحسب الإجابة عن هذه الأسئلة، سوف يتم تصنيفه هل هو معتدل (أمريكياً) أم متطرف؟!
المعتدلون في العالم الإسلامي
ويذكر التقرير ثلاثة أنواع ممن يسميهم «المعتدلين» في العالم الإسلامي، وهم:
أولاً: العلماني الليبرالي الذي لا يؤمن بدور للدين.
ثانياً: «أعداء المشايخ»؛ ويقصد بهم هنا من يسميهم التقرير «الأتاتوركيين»؛ أي أنصار العلمانية التركية، وبعض التونسيين.
ثالثاً: الإسلاميون الذين لا يرون مشكلة في تعارض الديمقراطية الغربية مع الإسلام.
ثم يقول بوضوح: إن التيار المعتدل هم من يزورون الأضرحة، والمتصوفون، ومن لا يجتهدون.
وينفق التقرير جزءاً كبيراً منه (فصلان من عشرة فصول) في التركيز على ضرورة أن يتم التركيز على «أطراف» العالم الإسلامي وتجاهل «المركز» -يقصد به المنطقة العربية- بغرض دعم ما يسمونه «الاعتدال في أطراف العالم الإسلامي»، خصوصاً في آسيا وأوروبا وغيرها. (انتهى ما يتعلق بالتقرير).
التصوف
والناظر في تاريخ تزكية النفس، أو ما عرف لاحقاً في القرن الثالث الهجري بـ»التصوف» يجد رواد الفكر، وزعماء الإصلاح، ورموز التجديد، وقادة لواء الجهاد في هذه الأمة عبر تاريخها هم من هذه الفئة التي جعلت من تزكية النفس والزهد قريناً بل وقوداً لحركتها الدعوية والإصلاحية والتجديدية والجهادية.
إننا يجب أن نعيد الأمر إلى نصابه، ونقرر بكل وضوح وجلاء: أن حركة التصوف الحقيقي في تاريخنا المجيد لم تكن لإقامة «دين» جديد، ممسوخ الشكل والمضمون، وإنما كانت مُعبرة عن الدين الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، مقترنة دائماً بكبار علمائنا من المجددين والمصلحين والمجاهدين، مُعزِّزة لبناء الإنسان الرسالي، ومحفزة على فاعلية الإنسان والبناء الحضاري للإنسانية، وهذه هي مقاصد التزكية التي تحققها في الأمة والإنسانية بعد تحقيقها هي باعتبارها مقصداً عالياً حاكماً.
إننا يجب أن نرفض هذا السعي المأزور الأثيم غير المشكور؛ ويقوم كل عالم غيور على هذا الثغر؛ متناولاً رؤى كلية ونقدية حول هذه القضية المهمة، ومحرراً إشكاليات في المصطلح والمفهوم وبعض المسائل، ومبيناً ما للتزكية من أثر في تكوين العلماء المجددين والزعماء المصلحين والقادة المجاهدين، قديماً وحديثاً، ومُعَرِّجاً على كيفية ممارسة هذه التزكية في الواقع المعاصر بمعوقاته وتحدياته، وناظراً بعين الإنصاف للجهود المعاصرة المبذولة في هذا السياق وبيان وجوه الإفادة منها، كما أن للغة والأدب أثراً وتأثيراتٍ في تهذيب النفس وتزكيتها وربطها بعقيدة الإسلام وشريعته الغراء.
إن العلماء يجب أن يظلوا مرابطين على ثغور الإسلام عقيدة وأخلاقاً وشريعة حتى لا يُؤْتَى من قِبَلهم، ولكي يظل محفوظاً في العقول والصدور كما هو موجود في السطور، وتلك هي رسالة العلماء في هذه الحياة بوصفهم وارثي النبوة وحارسيها؛ ترسيخاً للثوابت، وتوضيحاً للإشكالات والمفاهيم، وتجديداً للفهم، وتحفيزاً على الحركة والدعوة والتربية والجهاد المحفوف بتزكية النفس تخلية وتحلية وتجلية.
_______________________________________________________________________
(1) أفدت ما يتعلق بتقرير مؤسسة راند من مقالة بعنوان «لماذا تبني أمريكا شبكات مسلمة معتدلة علمانية؟» للكاتب المعروف محمد جمال عرفة، منشور على شبكة «صيد الفوائد»، ومعه مقالات أخرى حول الموضوع نفسه.