تتغير موازين القوى وتتبدل، فتظهر دول وتختفي أخرى على ساحة الصراعات، وكلٌّ يلقى تحديات حسب أهميته، والسؤال الأهم الذي يطرح نفسه بقوة: ما الذي يجعل دولة بعينها تكثر بها الصراعات والتحديات، ويضج تاريخها بالأحداث المتسارعة دون غيرها؟! والإجابة هنا ترجع إلى عدة عوامل؛ فقد تكون هذه الدولة تتمتع بموقع جغرافي فريد، أو أهمية إستراتيجية كبيرة، أو لها أهمية سياسية متصاعدة، أو مكانة عسكرية خطيرة، أو تمتلك مقومات اقتصادية لا تملكها دول أخرى.
منطقة القرن الأفريقي –التي تمتد على شكل قرن وتقع غرب البحر الأحمر وخليج عدن وتشمل أربع دول، هي: الصومال وجيبوتي وإريتريا وإثيوبيا- تمتلك كل مواطن القوة تلك؛ لذا أصبحت عرضة للصراعات الدولية والإقليمية، وهو ما يجعلها دائماً أمام تحديات كبيرة.
وتنبع أهمية القرن الأفريقي من الموقع المتميز على الخريطة الجيوسياسية، فهي تتمتع بمنافذ بحرية متميزة سواء كانت في البحر الأحمر أو بموقع خليج عدن والمحيط الهندي، وهي بهذا الوضع تعد أهم منفذ تجاري على مستوى العالم؛ لأنه يربط بين ثلاث قارات؛ أفريقيا، وآسيا، وأوروبا، كما أن هذا الموقع يتيح السيطرة على البحر الأحمر عن طريق التحكم في مضيق باب المندب.
في هذا التحقيق، نتناول أهم التحديات التي تواجه دول القرن الأفريقي في عام 2020م، على الصعيد السياسي والاقتصادي والتنموي، وعلى صعيد الهوية والثقافة.
التحديات السياسية ومستقبل الصراعات:
نظراً لما تمثله منطقة القرن الأفريقي من موقع جيوستراتيجي مهم، ظلت تاريخياً ساحة صراع دولي سواء في فترات الاحتلال الغربي، أو فترة الحرب الباردة وما بعدها، وقد عملت القوى الكبرى على التواجد بها؛ بداية من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، مروراً بالصين واليابان؛ ثم اللاعبين الجدد مثل تركيا وإيران والدول العربية كالإمارات والسعودية.
وتعليقاً على هذا الأمر، يؤكد د. بدر شافعي، خبير الشؤون الأفريقية بجامعة القاهرة، في تصريحات لـ»المجتمع»، أن التواجد الدولي سوف يستمر في القرن الأفريقي بسبب الأهمية الإستراتيجية لها من ناحية، والتنافس الإقليمي والدولي من ناحية أخرى، لكن ليس معنى التواجد حدوث مواجهات أو توتر إقليمي؛ لأن نهج إدارة «ترمب» هو تقليل الأعباء العسكرية، والتفرغ للمواجهة الاقتصادية للصين وغيرها في هذه المنطقة الحيوية، وذلك من خلال إعطاء الضوء الأخضر لـ»آبي أحمد»، رئيس وزراء إثيوبيا، لتصفير المشكلات في المنطقة مع دول الجوار (إريتريا، الصومال)، وكذلك الخلافات البينية، مثل الخلاف بين إريتريا وجيبوتي وغيرهما.
فمن الواضح أن طبيعة المشهد السياسي في منطقة القرن الأفريقي اليوم -وفق التجربة التاريخية- أنه مشهد متحرك ولا يملك القدرة على الاستقرار والثبات، ومآلاته مفتوحة على كل الاحتمالات، رغم اتجاه بعض القوى الدولية إلى ترميم الأوضاع لتحقيق الاستقرار وعدم الخروج عن السيطرة، وهو ما رأيناه في المحاولات الأخيرة لتحقيق السلام بين إريتريا وإثيوبيا، إلا أن نجاح ذلك مرهون بجملة من التحديات الداخلية والخارجية، ومدى تحقيق المكتسبات الجمعية لمكونات الإقليم.
فبالنظر إلى تحديات إثيوبيا خلال عام 2020م –حسب د. شافعي- فإنها ستشهد انتخابات في مايو المقبل ربما تكون الأهم، لأن «آبي أحمد» يرغب في استمرار تطبيق أجندته السياسية والاقتصادية، في حين ترى القوى المناوئة له -أبرزها التيجراي- ضرورة إقصائه من المشهد بعد تقليص نفوذها بصورة كبيرة، وربما سيكون الحدث الأهم داخلياً هو البدء في عملية الملء الأول لخزان «سد النهضة»، وهو مشروع وطني سيصب في صالح أي نظام موجود في الحكم، وربما هذا يفسر أسباب تصعيد «آبي أحمد» من لهجته ضد مصر رغم أنه الحائز على جائزة «نوبل للسلام».
أما بالنسبة لإريتريا، فيقول د. شافعي: رغم موقعها الإستراتيجي المهم، ورغم انتهاء الخلاف نظرياً مع إثيوبيا، فإنها (إريتريا) تبدو فاعلاً غير حقيقي في المنطقة بسبب شخصية «أفورقي»، الرئيس الإريتري، ونفس الأمر بالنسبة لجيبوتي، حيث لم يتم تسوية الخلافات الثنائية وأبرزها الحدودية، وربما ستبقى إريتريا تستضيف العديد من القواعد العسكرية بما فيها «الإسرائيلية»، كما أنها ستصبح مهمة بالنسبة لمصر -كما كانت من قبل- فيما يتعلق بالعلاقة المتوترة بين القاهرة وأديس أبابا، ومحاولة مصر التأثير على إثيوبيا من خلال ورقة إريتريا، وإن كانت هذه الورقة تراجع تأثيرها بصورة كبيرة بعد تسوية الخلافات بين أسمرة وأديس أبابا من ناحية، وعودة جبهة الأرورمو المسلحة إلى أديس أبابا التي كانت تستخدمها مصر كأداة للضغط على النظام في إثيوبيا.
وفيما يخص العلاقات الإثيوبية – الإريترية، يضيف عباس محمد صالح، الباحث في الشؤون الأفريقية، أنه رغم المصالحة التي بادر إليها رئيس الوزراء الإثيوبي فور وصوله السلطة في عام 2018م، فإن العلاقات بين البلدين عادت إلى مربع «الجمود»؛ فمستقبل علاقات البلدين يتوقف على سلوك الرئيس الإريتري، فضلاً عن العامل الخارجي وتحديداً بعض الدول العربية التي تمثل دور الضامن لتلك العلاقات.
أما داخلياً، فإن إريتريا على فوهة بركان قد ينفجر في أي لحظة؛ فنظام الرئيس «أفورقي» بلغ مرحلة عالية من الاستبداد، وحتماً يواجه هذا النظام شبح الانهيار؛ لأنه يقوم على حكم الفرد المطلق في أسوأ صوره، ويحاول المواطنون الفرار بأي طريقة، في وقت يحكم فيه «أفورقي» قبضته المطلقة على مقاليد الأمور في البلاد.
ويظل القرن الأفريقي بؤرة للصراعات السياسية، وأرضاً خصبة لأشرس التحديات، إلا أن الإسراع المتزايد والتكالب على المنطقة لبسط النفوذ قد يكون له تداعيات مستقبلية لا تُحمَد عُقباها، خاصة أن الدول صاحبة القوة لا تكتفي بقواعدها العسكرية، بل تمد جذورها داخل بلدان القرن الأفريقي عن طريق الهيمنة الاقتصادية؛ مما جعل دول المنطقة لا تملك من أمرها شيئاً.
التحديات الاقتصادية ومستقبل التنمية:
تعاني دول القرن الأفريقي من فقر مدقع، حيث تعتمد معظمها على المساعدات الخارجية، فإريتريا تعد واحدة من أكثر دول العالم اعتماداً على المساعدات الخارجية، وكذلك الصومال، أما إثيوبيا فكانت تعتمد أيضاً على المساعدات، وكانت تصنف من أفقر دول العالم؛ إلا أنها في السنوات الأخيرة شهدت نمواً اقتصادياً ملموساً يعد من أسرع معدلات النمو العالمية، أما جيبوتي فتسعى إلى الاستفادة من موقعها الإستراتيجي على مضيق باب المندب عن طريق الاستثمار في اقتصاد الموانئ، وكذلك الامتيازات والتربح بالسماح بإنشاء قواعد عسكرية، حيث تجني جيبوتي نحو ربع مليار دولار سنوياً مقابل تأجير أراضٍ لقواعد عسكرية.
ويوضح الباحث صالح، لـ»المجتمع»، أن دول وشعوب منطقة القرن تحتاج للتنمية الاقتصادية العاجلة، فقد فشلت سياسات دول المنطقة والمقاربات الدولية في هذا الصدد لإحداث نقلة اقتصادية تنعكس على حياة هذه الشعوب وازدهارها، ويظل تحدي خفض الفقر وانتشال الشعوب من براثنه قائماً، وكذلك الأمن البشري لسكان المنطقة هو التحدي الحقيقي، ليس فقط لدول المنطقة ولكن للمجتمع الدولي بأسره، خاصة في ظل مخاطر التغيرات المناخية وموجات الجفاف، وما تسببه من نزوح ولجوء وأشكال أخرى من الحراك السكاني الذي يمكن أن يتسبب في زعزعة الاستقرار الإقليمي بشكل أو آخر.
ولا تقتصر الأهمية الاقتصادية للقرن الأفريقي على اعتبارات الموقع والموانئ فحسب، وإنما تتعداها للموارد الطبيعية، خاصة البترول الذي بدأ يظهر في الآونة الأخيرة بعدد من دول المنطقة مثل الصومال، كما تمتلك المنطقة مقومات اقتصادية أخرى أهمها المياه، فهي التي تزود مصر والسودان بالمياه الصالحة للشرب؛ لأن نهر النيل ينبع جزؤه الأكبر من إثيوبيا، لذا سعت دول العالم إلى هذه المنطقة للاستفادة من مقوماتها الاقتصادية وبسط نفوذها على المحيط الإقليمي تحت ذريعة التعاون الاقتصادي والخيري.
تحديات الهوية والثقافة:
جاء في كتاب «العرب والقرن الأفريقي.. جدلية الجوار والانتماء»، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أن القرن الأفريقي يُشكل فسيفساء من الثقافات مع التنوع العرقي الكبير على المستويين الإقليمي وداخل البلدان نفسها، وأن المنطقة تعد موطناً لنحو 340 لهجة ولغة.
لكن مشكلة المنطقة الحقيقية ليست من أزمة هوية الجماعات، بل من التنافس بين الجهات السياسية الفاعلة على السلطة والموارد، مما خلق تحدياً على إدارة الدولة واستقرارها، فمن الضروري إحلال الاستقرار في منطقة القرن الأفريقي، وهذه المهمة لن يكتب لها النجاح دون شراكة إقليمية فاعلة مع القوى الدولية لتثبيت الاستقرار في المنطقة.
وإذا نظرنا إلى حالة إثيوبيا وعلاقاتها بجوارها، باعتبارها إحدى دول القرن الأفريقي الأكثر تدخلاً في الصراعات الإقليمية بالمنطقة، وأكثرها دخولاً في صدامات مسلحة مع دول الجوار، نجد أن إثيوبيا بإمكاناتها وتكوينها الثقافي واللغوي والديني المتنوع يمكن لها أن تساهم في تحقيق الاستقرار الإقليمي والأمن في منطقة القرن الأفريقي، لأنها نقطة الارتكاز والاستقرار في المنطقة، وشريك في التنمية والسلام والأمن على المدى الطويل في أفريقيا والعالم العربي.
وختاماً، فإن الاستقرار لن يعم إلا إذا امتلكت الدول قرارها وزمام أمرها، وهو ما نرجو أن يتحقق في دول القرن الأفريقي بنسبة أكبر، وأن تخرج المنطقة من التحديات التي أمامها بما يَصلح للشعوب ويدعم استقرارها وأمنها، وأن يصبح الإنسان هدفاً أول للمجتمع الدولي بأسره.
___________________________________
(*) صحفية متخصصة في الشأن الأفريقي.