بت مولعاً بحكايتها؛ تلك التي تروى في ليالي السمر؛ من تكون الجدة مسعودة؟
سؤال بدأ الصغار يلحون علي بإجابته؛ ربما لن يفهموا مغزى الحكي ولا الطرق الموصلة إليه، هل أخبرهم بأنني مجذوب لما يعرف أحد دواء لعلته ومن ثم يكون كل ما يقصه مجرد أوهام، كثيرا ما أكون ساربا بالليل والناس نيام؛ تقاصرت أحلامي حتى قنعت منها بالنزر اليسير، حكاء يعب في أذنه من لسان الجدات والغجر الذين طافوا بالكفر، أولياء الله الصالحين الذين ملأوا أرضنا بعبق سيرتهم، قصص الجدات وما لاكته ألسنتهن، وما دار حول النهر من سيرة النداهة.
ذلك المكان يزدحم بمن ألقوا فيه عصا تسيارهم بصمة ماتزال قوية؛ يتعجب كثيرون من مفرداتي يرونها غريبة؛ آخرون يخالونها صعبة. عندما كان الأجداد يموتون ونادرا ما يحدث هذا في كفرنا؛ يبدو أن الله بارك كفرنا ناسه وشجره؛ يعمرون طويلا؛ نمسك بذيول ثيابهم؛ يهبوننا حكمة نعتاش عليها.
تكبر شجرة الجميز حتى تبلغ السماء، يأتون بالموتى مسرعين إلى ضفة النهر، يودعونهم تلك الحفر، يتلون عليهم آيات من كتاب الله؛ ينتحب الآباء عدة أيام ثم بعد يتسلون بأعمالهم؛ يبدؤون في الحديث الذي لا بد منه؛ يتقاسمون القمح الذي اختزنوه من حرث الكبار؛ حتى إذا مضت أيام الحداد بدلت النسوة ثيابهن السوداء، يخرجن عاريات الصدور توشك حبات الرمان أن ينفرطن خمرة تسكر المتسكعين في المقهى العجوز، لا يملون من الثرثرة وقد صارت الأرض يبابا؛ في زمن الأجداد لم يزر السوس أطمار الخزين؛ بات أنهم تركوا خلفهم من لا يحسنون البذر؛ يتعاركون وينسون العجائز يلكن الحكايات القديمة؛ يجترونها تمضية للوقت؛ يحتاج الشتاء الطويل بعض الخرف؛ ثمة سر عند تلك النبقة العجوز عند مقام ولي الله الشيخ صفوان؛ أخبرتني أمي أنه رجل صالح مر بكفرنا وحين جاءه ملك الموت ربض في مقابر المجرية؛ تتساقط أوراق النبقة كما الأشجار يضربها الخريف، تسكن عند الجهة الغربية من المقبرة العتيقة امرأة تتلفع بالسواد يقال لها الجدة مسعودة؛ أحمل إليها بضعة أرغفة وحبات الليمون؛ نادرا ما أقدم لها وعاء اللبن؛ بقرتنا تنكره؛ نغافلها بحبات الفول، تمسك أمي بضرعها تنذر لولية الله مسعودة شيئا منه؛ تمتلئ الأوعية؛ تخور البقرة وتدر لبنا يفيض كما النهر؛ ثمة مفتاح كبير معلق في رقبة الخالة مسعودة؛ رأته أمي حين وهبتها غطاء يقيها برودة الشتاء الذي ظل ممتدا ستة أشهر؛ قيل إنها امرأة تعرف سر النهر، من تحت قدميها يجري نبع فيه أسماك ذهبية؛ شجرة النبق أوت إليها البتول مريم؛ مبارك شعب مصر قالها نبي الله، تتوجه الخالة مع الفجر إلى ربها تتلو أورادها في خشوع؛ حين تفعل ذلك تصلي يمامة فوق النبقة العتيقة؛ تتراص الأسماك وسط الماء؛ تمضى سنوات وما تزال الجدة تأوي إلى شجرة النبق؛ يمر الغروبي يركب حماره الأعرج؛ يحمل منشارا؛ حين رأته الجدة احتضنت النبقة؛ ذلك رجل يقطع الأشجار؛ تعرفه بتلك العين العوراء؛ ما دخل أرضا إلا وجعلها نذر حرب كريهة؛ فيما مضى لم نسمع لها صوتا؛ كنا نتساءل أهي صماء خرساء؟
تكتفي بأن تتمتم شاكرة كسرة الخبز وحبات الفول ومزقة اللبن، ينتفض كلبها الأبيض يربض عند قدميها.
تضع مفتاحها العتيق في جوف النبقة؛ تخرج صرة مملوءة برموز وعلامات؛ كتاب به ورقة ممهورة بخاتم الملك؛ إذ ذاك كنت أعرف النقش؛ تشير إلى جبال بعيدة؛ سحب تمطر؛ غزلان تتراقص، أسود تزأر؛ خيط يتماوج ومن حوله زروع وأشجار نبق ونخيل؛ بنات سمر أشبه بطمي النهر؛ سفن تفرد أشرعتها؛ رجال يلعبون بالعصي؛ ترانيم في معابد وصلوت في جوامع، خيل وبغال وحمير.
تقوم من مكانها الذي لم تفارقه منذ رأيتها أول مرة؛ مثقلة بعبء الزمن؛ ضامرة كما الفقر الذي يخيم على كفرنا؛ يهزأ الغروبي الحطاب؛ يرفع حماره الأعرج عقيرته ومن ثم يصدر نهيقه؛ يصيح فيها آن لي يا مسعودة أن أعود إلى الكفر وأدخل من تحت جذع النبقة؛ يوم أن حملنا الذهب والحجر، تهت مع قومي في البرية آمادا؛ أعلم أنك هنا؛ حان الأوان لنسكن ضفة النهر؛ ستقولين: مبارك شعب مصر؛ وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين؟
الربوة صارت كتلا من أحجار؛ نساء تتدلى خواصرها في علب الليل؛ تتهدل شعورهن في تلك الحانات، وأما المعين فدونه ألف سد وسد.
حين قامت الجدة وجدنا نبقة صغيرة تشق الثرى، هذا أوان الغرس في ضفة النهر؛ يهزأ الغروبي الحطاب من تلك النبتة؛ يسرع ويكاد أن يجتثها؛ ينبح عليه كلب الجدة الأبيض؛ يمزق ثيابه، ينفث فيه بنابه؛ يتدافع الأبناء الذين تركوا الزرع وتسلوا بالعراك حول بنت الرومية؛ جرى الحطاب وتبعه حماره الأعرج.