قبيل رحيله بأيام، كنت أطالع آخر مقال للدكتور محمد عمارة في مجلة «الأزهر» (عدد رجب 1441هـ)، ناقش فيه قضية الحجاب، بوصفها محاولة من أعداء الإسلام وخصومه لنسخ الشريعة الإسلامية، وإشاعة التحلل والانحلال في المجتمعات الإسلامية والشرقية؛ تقليداً للمجتمعات الغربية التي تخلت عن تقاليد الحشمة الموروثة من تاريخها ودينها.
طرح د. عمارة القضية وما يثيره غلاة العلمانيين من بني جلدتنا بدعوة المرأة المسلمة إلى عدم الالتزام بما نصت عليه الآيات القرآنية من ستر عوراتها بالخمار والحجاب، وينتهي مقاله بدحض حجج دعاة التحلل والانحلال، معتمداً على الدليل والبرهان والمنطق.
لم يتوقف عمارة يوماً عن مواجهة ما يثيره أعداء الإسلام وخصومه، منافحة عن الدين والعقيدة والشريعة، بكل ما أوتي من عزم ووعي، مؤمناً أن هذا هو ميدانه الحقيقي في الجهاد دفاعاً عن دين الأمة وهويتها.
وعلى مدى 89 عاماً هي عمره الحافل بالعطاء والفكر، قدّم أكبر عدد من المؤلفات والكتب المحقَّقة، بالإضافة إلى مقدمات للكتب؛ فقد حقق وألّف 311 كتاباً بعضها في أجزاء ومجلدات ضخمة، ونحو 13 كتاباً من الكتب الحديثة صدّرها بمقدمات تلقي الضوء عليها وعلى أصحابها، وما أظن أحداً سبقه في هذا الطريق إلا الأستاذ أنور الجندي –رحمه الله- الذي كان يسابق الزمن لإنجاز ما يريد كتابته من مؤلفات أعدّ مادتها وجمع تفاصيلها قبل أن يرحل.
هذه الكتب لا ينهض بإعدادها في وقت قياسي إلا رجل من أولي العزم والصبر والبصر، تفرغ من أجلها مسلحاً بالعلم والمعرفة والقراءة الدائبة والبحث المضني، وقبل ذلك الإيمان بعقيدة راسخة ومنهج واضح.
ولحسن الحظ؛ فإن عمارة لم يرتبط بوظيفة تقيده بحضور وانصراف أو تفرض عليه التزامات وواجبات تعطل مسيرة الاطلاع والتأليف؛ فقد عكف في بيته ومكتبته على المطالعة والكتابة لا ينشغل بشيء غيرهما، حتى اشتغاله برئاسة تحرير مجلة «الأزهر» لم يعطله عن البحث والاطلاع والكتابة؛ فقد اختار مجموعة من الكتَّاب يطمئن إلى مستواهم الفائق وقدرتهم على الكتابة العلمية الدقيقة، وأحاط نفسه بعدد من مساعديه الفضلاء الذين يدركون قيمة الكلمة وتأثيرها، فازدهرت المجلة في عهده ازدهاراً عظيماً، ووزعت أعداداً كبيرة غير مسبوقة، وقفز التوزيع من ستة آلاف نسخة إلى ستين ألفاً، وهو ما أزعج قوى الشر المعادية للإسلام، وفي الوقت ذاته لم يتوقف إنتاجه العلمي والفكري، وأذكر أنه في مهاتفاته كان يسألني عن بعض الموضوعات والمتخصصين فيها، أو النصوص والمراجع التي تتناولها، كي تكون مجالاً للكتابة في بعض أعداد المجلة.
التحول من الماركسية
لقد خدم الفكر العربي الإسلامي وأضاء كثيراً من المساحات المعتمة، وتصدى لأباطيل أعداء الإسلام وخصومه، ومثّل إزعاجاً لا حدود له للمتآمرين على الدين في الداخل والخارج، فتربصوا به وكثيراً ما اتهموه اتهامات باطلة، وعيّروه بمرحلته الماركسية التي كانوا يرونه من خلالها مفكراً عظيماً وكاتباً كبيراً، أما حين عاد إلى فكره الإسلامي وأصالته الفطرية، فقد رأوه عكس ذلك.
لم يدركوا أنه تحلى بفضيلة المراجعة والتصويب، فيوماً ما كان مفتوناً في مقتبل حياته بالماركسية وانخرط في بعض تنظيماتها مما أدى إلى اعتقاله في الواحات، وفي يوم ما انشغل بالاعتزال، وفي يوم ما انشغل بالسلفية الجامدة، لكنه بعد محنة الاعتقال صفا ذهنه وراجع نفسه، ووجد نفسه عائداً إلى طبيعة الإسلام الوسطية التي تقف مع الحق والعدل ورفض الظلم وإشاعة الرحمة والمودة، وهي الوسطية الإلهية التي اختص الله بها أمة الإسلام؛ (جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: 143)، ومنهج كل ابن آدم خطاء وخير الخطّائين التوّابون؛ ولذا لم يكفّر أحداً، ولم يفتش في ضمائر الناس، وكان ضد قتل المرتد إلا إذا كان رجلاً وفارق الجماعة، أي خان الأمة وانضم إلى أعدائها محارباً، فالمرأة المرتدة لا تقتل لأنها غير محاربة.
في كتابه «التفسير الماركسي للإسلام»، يشير إلى هذا الأمر وغيره، وهو يدعو نصر حامد أبوزيد إلى مراجعة تفسيره المادي للإسلام وتصويب أخطائه العلمية والعقدية، ويستشهد بنفسه حين انبهر بالماركسية وتنظيماتها، ولما اكتشف خطأه صوب موقفه ورجع إلى الحق، ويستشهد ببعض الآيات الكريمة الدالة على التوبة والرجوع إلى الحق مثل قوله تعالى: (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (ص: 30)، وقوله تعالى: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ {31} هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ {32} مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ {33} ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ {34}) (ق)، وقوله تعالى: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ {1} وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ {2}) (القيامة). (راجع: محمد عمارة، التفسير الماركسي للإسلام، دار الشروق، القاهرة، 1422هـ/ 2002م، ص122).
لقد شاءت إرادة الله أن يخوض التجربة الشيوعية ليفقه أفكارها وتصوراتها، ويخبر دقائقها وأسرارها، ويتعرف على دروبها ومنعطفاتها، فيملك القدرة على كشف مناوراتها وتدليسها، ويفند ادعاءاتها وأباطيلها حول الإسلام والمسلمين، لأنه من أعرف الناس بالمنطق الشيوعي، وتجلياته. (انظر: السابق، ص7-8).
ومن الطريف أن أحد قادة التنظيمات الماركسية الكبار جمعني به مؤتمر أدبي قبل عشرين عاماً تقريباً قال لي: «إن د. عمارة كان يصلّي بنا في المعتقل، ويخطب الجمعة»، وهي شهادة تثبت أن الرجل مع فتنة الماركسية ثم القومية كان يعبر عن توهج العاطفة الدينية في داخله وإيمانه بعقيدة الإسلام بالصلاة والخطابة وغيرهما.
نشأته ومسيرته العلمية
لقد تربى محمد عمارة مصطفى عمارة، المولود في قرية صروة مركز قلين محافظة كفر الشيخ (1350 – 1441هـ/ 1931 – 2020م) تربية إسلامية، فقد حفظ القرآن الكريم في سن باكرة، والتحق بمعد دسوق الديني الأزهري في الأربعينيات، وبعد حصوله على الثانوية الأزهرية من المعهد الأحمدي بطنطا، انتقل إلى كلية دار العلوم؛ فحصل منها على الليسانس في اللغة العربية والعلوم الإسلامية، والماجستير والدكتوراه من قسم الفلسفة الإسلامية، جاء موضوعه في الماجستير عن «مشكلة الحرية الإنسانية عند المعتزلة» عام 1970م، وموضوعه عن الدكتوراه «نظرية الإمامة وفلسفة الحكم عند المعتزلة» عام 1975م، وتم التصديق على الدكتوراه بعد عام لاعتراض د. محمد ضياء الريس -يرحمه الله- على بعض ما جاء فيها من أحكام.
كانت أشواقه لإصلاح مجتمعه وتقدمه دافعاً له للبحث عن الوسائل أو النظريات أو التنظيمات التي يمكن أن تحقق هذا الإصلاح، فشارك في المظاهرات التي تهتف ضد الاستعمار والسياسيين المتخاذلين، أيام كان في الأزهر، وشارك في الاحتجاجات التي انطلقت من دار العلوم، مما أدى إلى فصله لمدة عام، ثم اعتقل وهو في السنة الرابعة، وأكمل دراسته بعد خروجه من المعتقل ليحصل على الليسانس عام 1965م.
كما انضم في سنيه الأولى إلى حزب مصر الفتاة الذي أسسه أحمد حسين، ونشر في صحيفة الحزب مقاله الأول ضد عدوان العصابات الصهيونية على أرض المقدسات، وكان بعنوان «جهاد في فلسطين»، بيد أنه بعد خروجه من المعتقل وحصوله على الليسانس آثر أن يتفرغ للعمل العلمي، ويقدم مشروعه الفكري الذي تفرعت جوانبه، ونمَت على جذع واحد هو التصور الإسلامي الناضج، وهو ما منحه فيما بعد القدرة على مواجهة خصوم الإسلام ومناظرتهم أمام الجمهور وإفحامهم بالحجة والبرهان، كما أتاح له أن يأخذ مواقف تاريخية دفاعاً عن الإسلام والحرية والإرادة الشعبية، وظل دفاعه عن الإسلام شاغله الشاغل.
وقد روى أنه قال لوزير أوقاف أسبق: لماذا يصرّ رئيسك على الاستعانة بالعلمانيين دون الإسلاميين، ويتيح لهم وسائل الإعلام والنشر ليقولوا ويكتبوا ما يريدون، بينما يغلق المجال أمام علماء الإسلام؟ فطلب منه الوزير أن ينتظر حتى يعرض الأمر عليه كي يلتقي بمجموعة منهم، ولكن الوزير ذهب ولم يعد، حتى قابله د. عمارة في مناسبة ما، فأخبره الوزير أن الرجل لا يطيق رؤية العلماء ولا يحب ذكر الإسلام!
وفي ثورة يناير الموءودة، أعلن تأييده لها، وأصدر البيانات، وأعلن في المقابلات الإعلامية مساندته للشباب الثائر، ودعمه لمطالبه المشروعة، وعندما وقعت الواقعة بقتل الثورة وإلغاء الإرادة الشعبية أصدر بياناً يندد بما حدث، ويطالب بالرجوع إلى الديمقراطية والدستور الذي كتبه الشعب، وكان العقاب طبيعياً؛ فقد حرم -مثل كثيرين- من المنابر الإعلامية والصحفية، وتم التضييق عليه في مجلة «الأزهر» حتى تم إبعاده عنها نهائياً باستثناء مقال شهري ينشر على استحياء في موضوعات بعيدة عن لمس الواقع مباشرة وما يجري فيه، ولكنه لم يتوقف عن البحث والتأليف ومتابعة ما يجري للأمة بالكتابة والتحليل.
أعماله الفكرية
كانت أبرز أعماله الفكرية في مقتبل حياته جمع وتحقيق الأعمال الكاملة لأبرز أعلام النهضة الإسلامية الحديثة؛ مثل رفاعة الطهطاوي، والأستاذ الإمام محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وعبدالرحمن الكواكبي، وعلي مبارك، وفيما بعد اهتم بالترجمة للنبي صلي الله عليه وسلم وأبرز الصحابة والتابعين ورواد الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، فقد كتب عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، والحسن البصري، وعمر بن عبدالعزيز، ورشيد رضا، وخير الدين التونسي، وحسن البنا، وأبي الأعلى المودودي، وسيد قطب، ود. عبد الرزاق السنهوري باشا، والشيخ محمد الغزالي، والشيخ القرضاوي.. وغيرهم، وتمثل مؤلفاته إحاطة شبه كاملة بالقضايا والموضوعات التي تشغل المسلمين في واقعهم الراهن، ومستقبلهم الموعود، فضلاً عن تاريخهم الماضي.
ومن هذه المؤلفات: التفسير الماركسي للإسلام، المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية، معالم المنهج الإسلامي، الإسلام والمستقبل، نهضتنا الحديثة بين العلمانية والإسلام، معارك العرب ضد الغزاة، الغارة الجديدة على الإسلام، جمال الدين الأفغاني بين حقائق التاريخ وأكاذيب لويس عوض، الوعي بالتاريخ وصناعة التاريخ، التراث والمستقبل، الإسلام والتعددية، الإبداع الفكري والخصوصية الحضارية، الإسلام والسياسة: الرد على شبهات العلمانيين، الجامعة الإسلامية والفكرة القومية، قاموس المصطلحات الاقتصادية في الحضارة الإسلامية، معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام، القدس الشريف رمز الصراع وبوابة الانتصار، هذا إسلامنا: خلاصات الأفكار، الصحوة الإسلامية في عيون غربية.
ومنها كذلك: الغرب والإسلام، أبو حيان التوحيدي، ابن رشد بين الغرب والإسلام، الانتماء الثقافي، التعددية: الرؤية الإسلامية والتحديات الغربية، صراع القيم بين الغرب والإسلام، عندما دخلت مصر في دين الله، الحركات الإسلامية: رؤية نقدية، المنهج العقلي في دراسات العربية، النموذج الثقافي، تجديد الدنيا بتجديد الدين، الثوابت والمتغيرات في فكر اليقظة الإسلامية الحديثة، نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم، التقدم والإصلاح بالتنوير الغربي أم بالتجديد الإسلامي، الحملة الفرنسية في الميزان، الحضارات العالمية: تدافع أم صراع، إسلامية الصراع حول القدس وفلسطين، القدس بين اليهودية والإسلام، الأقليات الدينية والقومية: تنوع ووحدة أم تفتيت واختراق، السُّنة النبوية والمعرفة الإنسانية، خطر العولمة على الهوية الثقافية، مستقبلنا بين العالمية الإسلامية والعولمة الغربية، بين الغزالي وابن رشد، الدين والدولة والمدنية عند السنهوري باشا، هل المسلمون أمة واحدة، الغناء والموسيقى حلال أم حرام، أزمة العقل العربي، المواجهة بين الإسلام والعلمانية، تهافت العلمانية، الحركة الإسلامية: رؤية مستقبلية، القرآن، قارعة سبتمبر، العرب والتحدي، الإسلام وحقوق الإنسان، التشيع الفارسي المعاصر – خفايا المؤامرة، الخطاب الديني بين التجديد الإسلامي والتبديل الأمريكاني.
كان عطاؤه الفكري الأصيل، وشموخ مواقفه الفكرية انتصاراً للإسلام والأمة، مسوغاً ليشارك في عضوية هيئة كبار العلماء، والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، والمعهد العالي للفكر الإسلامي.
لم تمنحه السلطة جوائزها التي تغدقها على من لا يستحقون، بل إنها منحت جائزتها التقديرية في «الدراسات الإسلامية» لشخص لا علاقة له بالإسلام ولا القرآن، وإن كان حصل على «الجائزة التشجيعية» في صدر حياته، وقدّرته بعض الجهات غير الحكومية ببعض جوائزها وأوسمتها، وكرمه مركز الإعلام العربي في مؤتمر حاشد يوم 2 نوفمبر 2011م بنقابة الصحفيين بمصر، حضره أعلام الفكر والأدب والثقافة، وللأسف لم يتح لي -بسب ظروف خاصة- المشاركة في تكريمه بالبحث الذي أعددته عنه، ولكن سعدت بظهور البحث في الكتاب التذكاري الذي صدر عنه بعد حفل التكريم، إنه فيما أظن كان ينتظر الجائزة الإلهية.
لقد كان -يرحمه الله- مستقيماً متسامحاً، غايته نشر الإسلام بمفاهيمه الصحيحة، يقف إلى جانب الشباب الباحث عن الحقيقة، ويشجع على البحث والاطلاع، وربّى ولديه على القراءة وحب الكتاب والثقافة، وأحسن تربيتهما، وكانت وصيته الأخيرة تركز على إكمال مشروعاته الفكرية ونشر كتبه وأفكاره، وتبرع بكتبه في معرض مسقط الأخير للطلاب والباحثين، ومثلما عاش بسيطاً لا ينظر إلى عرض الدنيا، ودع الأمة بسيطاً خفيفاً، وذهب إلى لقاء ربه مساء الجمعة 28 فبراير 2020م، بعد أزمة صحية عارضة استمرت لثلاثة أسابيع.
رحمه الله وأجزل ثوابه.