نتناول هنا بالتحليل المقولة الثانية لإسماعيل الفاروقي، وهي “التوحيد” لباب الإسلام، وتقوم هذه المقولة على عدة مقدمات تتسم بالبداهة في الإسلام، وهي:
1- الإسلام جوهر الحضارة الإسلامية.
2- التوحيد جوهر الإسلام.
3- التوحيد جوهر الحضارة الإسلامية.
4- الحضارة الإسلامية تستمد هويتها من التوحيد.
5- لا إسلام بلا توحيد.
لذلك فإن أي خلل في مفهوم التوحيد يؤدي بالطبع إلى خلل وانهيار في مفهوم الدين ذاته بكامله، والتزام الإنسان بعبادة ربه، وامتثاله أوامره واجتناب نواهيه، حيث يترتب على هذا الاضطراب انهيار مفاهيمي الفردية، الصمدية التي يعطيها التوحيد لمفهوم “الله” أو “الإله”، وهذا ما حكاه القرآن، فإن وجود إلهين أو أكثر يؤدي إلى:
– علو بعضهم على الآخر.
– فساد السماوات والأرض.
– انهيار النظام السنني.
– انهيار المؤسسة النبوية.
التوحيد بين المسيحية واليهودية
شهدت المسيحية واليهودية انحرافًا في مفهوم “التوحيد” و”فكرة التسامي والتعالي للذات الإلهية”، وأكد القرآن الكريم أنهما شهدتا انحرافات عقدية كبيرة ومعرفية أيضًا، أطاحت بتفرد ومفارقة الذات الإلهية، ومن مظاهر ذلك:
الخطأ في فهم وتأويل ما تنزل عليهم من ربهم، والذي لا علاقة له بالصورة الأصلية المنزلية على رسلهم (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ) (البقرة: 79)، (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا) (التوبة: 31).
ومن فهمهم المنحرف الحديث عن الله بصيغة الجمع، والأبوة لليهود، وأنسنة الإله أو تأليه الإنسان كما عند المسيحية؛ (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) (التوبة: 30).
التوحيد عند المسلمين
انعكس مفهوم التوحيد الخالص (غير المشوب) على جميع مناحي حياة المسلمين وظهر فيها التصور السامي للذات الإلهية، ومن مشاهد ذلك في الحضارة والتاريخ الإسلامي:
الطابع المتعالي المفارق للذات الإلهية في الفن الإسلامي، حيث لم يثبت أن وجِدَ فيما أبدعه الفنانون المسلمون في نقوش وتزيين المساجد أي ربط بين الله تعالى وأية صور أو أشياء حسية؛ حيث جاءت كل الفنون الإسلامية تؤكد هذا المبدأ “تعالى ومفارقه الذات الإلهية” عن الترمز والتجسيد والتشبه والتمثل أو الشرك؛ بل جاءت تؤكد المبدأ السابق وتعضده.
الطابع المتعالي المفارق للذات الإلهية في اللغة عند المسلمين، حيث حافظ المسلمون على اختلاف ألسنتهم ولهجاتهم وأعراقهم وخلفياتهم الثقافية على مراعاة الطابع المتعالي المفارق للذات الإلهية كما عبر عنها القرآن الكريم، وكان ذلك واضحًا في اعتبار المسلمين كل المسلمين أن النص العربي للقرآن هو وحده القرآن، وما عداه من ترجمات فهي لفهم معانيه.
ورغم امتداد الزمن على نزول القرآن (15 قرنًا تقريبًا)، فإن الحفظ الكامل للغة العربية بكل قواعدها المتأصلة فيها واستعمال ملايين البشر لها أدى إلى إزالة معظم مشكلات التأويل التي تواجه القارئ المعاصر للقرآن على طول فترة تنزله، وأدى هذا الحفظ إلى:
– تنزيل الأحكام القرآنية على الواقع المتجدد والمتغير.
– ترجمة المبادئ القرآنية إلى تشريعات.
– استمرارية ضوابط ومعايير الفهم المؤسسة في عصر النبوة والصحابة إلى الآن.
ومن ناحية أخرى، يقدم التوحيد هنا ثلاثة معان قيمية، هي:
أولها: أن الخليقة ليست هي “أفضل” العوالم الممكنة فحسب، بل إنها “كاملة” ولا عيب فيها؛ (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (السجدة: 7)، (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) (الملك: 3-4).
ثانيها: قدرة الإنسان على مواجهة المشكلات والمآزق بنفسه؛ حيث إنه لا يحتاج إلى مخلص، بل يحتاج إلى القيام بواجبه في أداء رسالته الكونية الإلهية، ومن ثم فطريق الإنسان هو “الفلاح” وليس “الخلاص”.
ثالثها: المساواة، حيث إنه لا محل للتمييز بين الأماكن والبشر كموضوع للفعل الأخلاقي، بما أن الخير الواجب التحقيق هو الإرادة الإلهية، تلك الإرادة الإلهية واحدة لكل المخلوقات، لكونها متعلقة بالخالق وحده، ويتعين عليهم الخضوع لها.
اللغة والمحافظة على طابع التعالي المفارق للذات الإلهية
حافظ المسلمون، على اختلاف ألسنتهم ولهجاتهم وخلفياتهم العرقية والثقافية في كل أرجاء المعمورة بكل دقة وبذات الدرجة، على مراعاة الطابع المتعالي المفارق للذات الإلهية في التعبير عنها بلسان القرآن الكريم، وحققوا بذلك مقصود الأحكام القرآنية، المبينة في آيات من قبيل قول الله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف: 2).
والتزامًا بكل هذه النصوص القرآنية اعتبر المسلمون النص العربي للقرآن وحده هو القرآن، وما عداه من ترجمات لمعانيه هو مجرد أدوات معاونة على فهمه، ولكنها لا تعتبر نصوصًا، ولا يتلى القرآن إلا باللغة العربية، وبذا احتفظت الصلاة التي هي عبادة تمثل ركناً مؤسسياً من أركان الإسلام، بالكيفية نفسها التي بينها النبي للأمة، بالأمر الإلهي الموحي به إليه، وعلاوة على ذلك، شكل القرآن وعي من اعتنقوا الإسلام من غير الناطقين باللغة العربية، وزودهم بالمقولات التي يمكنهم التعبير في حدودها عن أمور دينهم، وعن مشاعرهم الدينية، وبات كل حديث للمسلمين عن الله تعالى محصورًا فيما جاء عنه بالقرآن الكريم، وملتزمًا بكل دقة بالتعبيرات القرآنية، بمصطلحاتها القرآنية، وبتعبيراتها وأشكاله الأدبية العربية.
ويعبر التوحيد، بعبارته البالغة الإيجاز “لا إله إلا الله”، عن معان ثلاثة، على المستوى القيمي:
أولها: أن الخليقة هي المادة التي ينبغي تجسيد الإرادة الإلهية المطلقة فيها، وكل مقومات الخليقة في الوضع الذي فطرها الله تعالى عليه خيره، والخليقة ليست هي أفضل العوالم الممكنة فحسب، بل إنها كاملة ولا عيب فيها، ويكفينا هنا التدبر في هذين الشاهدين القرآنيين: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ) (السجدة: 7).
وحقيقة الأمر أن الغاية الإلهية من خلق هذا الكون هي أن يملأ الإنسان بالقيمة، عبر الرؤية والفعل الأخلاقيين، مصداق ذلك قول الله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (الكهف: 7).
وترتيبًا على ذلك، فإن استمتاع الإنسان بالقيم الأولية أو النفعية للخليقة مباح. فالله تعالى يقول: (يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31 – 32)، والكون الممتلئ بالقيمة دليل بارز على وجود الله، والحفاظ عليه وإثراؤه يدخلان في إطار حمد الإنسان لربه وعبادته له، وكل شيء في الوجود متضمن لقيمة كونية أعلى، بوصفه أداة لتحقيق المطلق، وفي مقابل ذلك؛ انتقصت المسيحية من قدر هذا العالم واعتبرته ساحة للجسد، ومن قدر الإنسان بوصفه مخلوقًا محملًا بالخطيئة، ومن المكان والزمان باعتبارهما مجالاً من المستحيل تحقيق المطلق فيه إلى الأبد.
أما المعنى الثاني لشهادة التوحيد، فهو أن الإنسان لا يواجه في هذه الحياة أي مأزق لا يستطيع أن يخلص نفسه منه بنفسه، حقيقة أن طريق الإنسان مملوء بالعقبات، وأن الإنسان عرضة لتضييع نفسه بأنانيته، ولاختيار الطريق الأسهل بالانغماس في الكسل واللذة واللعب، إلا أن هذا الاحتمال ليس بأكثر واقعية من اختيار الإنسان طريق الجد والإيثار والعمل الأخلاقي، ومن ثم فإن الإنسان لا يحتاج إلى مخلص، ولا إلى مسيح، ولا إلى خلاص، بل كل ما يحتاجه هو تكريس نفسه لرسالته الكونية على الأرض، وقياس قيمة نفسه بقدر إنجازه لها مباشرة.
ومن هنا، فإن الإسلام على العكس من المسيحية، يرى أن النزعة الروحية المتمثلة في تلمس الإرادة الإلهية دون إعمال الإنسان يده في توازنات الواقع الوجودي للخليفة، ودون تجاوز خيوط السببية الطبيعية على كل مستويات الزمان والمكان، ودون عمل سياسي واقتصادي إنساني، هي مجرد دعوى مظهرية فارغة ومزيفة، فالتوحيد يدعو بني آدم إلى الفلاح، لا إلى الخلاص، ويعدهم بالثواب في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة بقدر يتناسب مباشرة مع أعمالهم.
أما المعنى الثالث الجديد الذي تعبر عنه شهادة التوحيد على المستوى القيمي، فهو أنه بما أن الخير الواجب التحقيق هو الإرادة الإلهية، وبما أن تلك الإرادة الإلهية واحدة بالنسبة لكل المخلوقات، لكونها متعلقة بالخالق وحده، ويتعين عليهم جميعاً الخضوع لها، فإنه لا محل للتمييز بين الأماكن والبشر كموضوع للفعل الأخلاقي، وأكد عيسى عليه السلام، والآباء الرسوليون من بعده، هذا المعنى بما فيه الكفاية، إلا أن أتباعهم من المسيحيين غفلوا عنه بالكلية، مما استدعي إعادة تذكيرهم به، أما اليهودية، في المقابل، فأنكرت هذا المعنى من حيث المبدأ، وعملت ضده بعناد، ودعت إلى نقيضه على الدوام.
_______________________________________
(*) أستاذ أصول التربية المساعد بجامعة دمياط- مصر.