لقد تم تسخير القوى الدولية الكبرى للإسهام في إنشاء الوطن اللقيط، وسارعت دول كبرى متطوعة في عملية التوطيد والتوطين للرعايا اليهود، الذين جاؤوا مهجرين من أوطانهم بالرغبة والرهبة وافتتحوا بقدومهم عهداً امتلأ بتزييف الوعي.
لقد أخذ تزييف الوعي مسارات شتى؛ بدأت من ادعاء ملكية الأرض والإرث التاريخي لها؛ إذ زعموا أن أرض فلسطين هي أرض الميعاد التي وعدهم الرب إياها؛ تحقيقاً لما في أسفارهم، مثل ما ورد في سفر التثنية عندهم: «يطرد الرب جميع هؤلاء الشعوب من أمامكم، فترثون شعوباً أكبر وأعظم منكم، كل مكان تدوسه بطون أقدامكم يكون لكم؛ من البرية ولبنان، من النهر -نهر الفرات- إلى البحر الغربي يكون تخمكم»(1).
هذه العقيدة التي تتشابك وعقيدة المسيا أو المسيح المنتظر، التي ينتظرها اليهود والنصارى معاً، ويعملون بجد على التمهيد لها، زاعمين أن وجوده لن يتم إلا بوجود الدولة المسيطرة من النهر إلى النهر.
في مجال تزييف الوعي؛ ظهر بين المسلمين من تلقف مقولة المحتل الغادر: اليهود والعرب أبناء عمومة، ووجودهم في أرض فلسطين وجود طبيعي، ومحاولة منع هذا الوجود هو محاولة ضد طبيعة الأشياء.
وفي مجال تزييف الوعي؛ تم تصوير الجهاد الإسلامي في كل صوره -حتى تلك التي يدافع بها المسلمون عن أنفسهم- على أنه نوع من الإرهاب، وغدا من يقاوم المحتل ويدفع عن نفسه وأرضه وعرضه عُرضة للاتهام بالإرهاب والتطرف.
وفي مجال تزييف الوعي؛ رُفعت خرائط فلسطين من على منصات البحث الإلكتروني، ومُحيت كلمتها من على خرائط البث، وغدا الاعتراف بها محصوراً بين عدد من الدول، بعد أن كانت يوماً ما ركيزة الكون، ويفد إليها القاصدون من الشرق والغرب، وكانت حلقة الوصل الدائمة بين قارتين هما الأقدم في تاريخ الإنسانية.
اختلاق الأعداء
في مجال تزييف الوعي؛ تم اختلاق عدو تلتف حوله الجموع لتنصرف من عداوتها للمحتل الغاصب للديار والمقدسات إلى عدو آخر.
فللأسف، صدَّروا للشعوب التي تم تغييب وعيها عدواً مسلماً، فأصبح الإنفاق على عداء العثمانيين، على سبيل المثال، يشمل كل ما يتعلق بهم، بداية من تأسيس دولتهم التي يتهمونها بالتصوف المغرق، مروراً بتاريخها الذي يقولون: إنه كان سبباً في تأخر المسلمين، وانتهاء بعدائها، حيث يراهم بعض المسلمين أخطر من الروس والأمريكيين، وأصبح نفر من المسلمين يتقبلون الوجود الروسي والأمريكي بل و»الإسرائيلي»، ولا يتقبلون الوجود التركي.
فمن الذي نجح في اختلاق هذا العدو الموهوم في حس الجماهير التي نسيت به احتلال «الأقصى» وتغيير هوية السكان، واحتلال التراب الفلسطيني كاملاً، وأجزاء من دول عربية مجاورة للكيان المحتل؟
وهو -لا شك- جزء ماكر من تزييف الوعي وصرفه بعيداً عن المشروع الصهيوني.
ومن تجليات تزييف الوعي: أنهم ألقوا في روع الجماهير قصة العدو الذي لا يُغلب، والكيان الذي يملك كل أسباب النصر، وأصبح الإيمان بقوة المحتل التي لا تقبل الهزيمة هو أحد مسلمات الوعي عند بعض المسلمين، غافلين عن قوله تعالى: (لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ) (آل عمران: 111)، وقوله تعالى: (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً) (الفتح: 22)، ثم الغفلة عن مسلمة النصر القرآنية: (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) ( آل عمران: 126).
ومن تجليات تزييف الوعي: تداول أخبار الكيان في الصحف والمكاتبات، وجعل الكيان كأنه صار حقيقة واقعة وجزءاً من تاريخ وجغرافيا المكان، فلا شك أن تداول أخبار الكيان الغاصب في مجال الحوادث والفعاليات والانتخابات نوع من أنواع تزييف الوعي لدى الجماهير، فقد غدت الجماهير تتابع بشغف نتائج انتخابات الكيان، وهكذا صار الكيان جزءاً من حالة الوعي الباطن لدى الإنسان الذي اغتصبت أرضه، وانتهكت مقدساته، فصار يفرح بولاية فلان، وانهزام فلان ممن لعن الله أجدادهم جميعاً الذي تولى والذي ولى.
ومن تجليات تزييف الوعي: التصدي لكل محاولات كشف إسفاف اليهود، وكذبهم وعداوتهم، لقد ظهر في المسلمين من يفتي بأنه لا يجوز التطاول على الكيان؛ لأنه في الحقيقة تطاول على اسم نبي من الأنبياء! بل يجب الاحترام والتقدير لـ”إسرائيل”؛ لأنه لقب يعقوب عليه السلام! وهذا كلام ساقط لا يستأهل رداً، ولا ينبغي شغل السطور بمناقشته.
لن أتحدث بطبيعة الحال عما صار يقال على ألسنة بعضهم؛ فهذه قضية تخص أصحابها ولا شأن لنا بهم، وإنما نتج هذا من تحول قضية الاغتصاب من قضية المسلمين إلى قضية العرب، ثم إلى القضية الفلسطينية، ثم إلى قضية المفاوضين.
الدور المطلوب
إن تحرير الأرض من دنس هذا الكيان الغاصب حقيقة يسلم بها المؤمنون في كل بقاع الدنيا، بل لعلها حقيقة يسلم بها الغاصبون أنفسهم، لكن هذا التحرير لا يأتي منبعثاً كالبركان، ولا يأتي خاطفاً كالزلازل، بل إن خطوات اقتلاع الكيان تبدأ من تبديد حالة الزيف الذي أصاب الوعي المسلم، فتحرير مصطلح الجهاد وفق الرؤية الإسلامية لا النعرات الجاهلية التي أصابته، وجعلته فتكاً بأبناء الأمة؛ صار ضرورة.
ومن الضرورات تنشئة الأجيال من خلال المناسبات الدينية والتربية الأسرية والمجتمعية على ضرورة العمل لاسترداد البيت من مغتصبيه، وتهجير من جاء مهاجراً مغتصباً له.
يجب تبديد حالة التهويل التي التصقت بالكيان وبقوته، فحين قامت الثورات العربية هرول اليهود نحو مصالحات شتى مع أبناء فلسطين، ثم تبددت الهرولة لما فشلت الثورات.
كما أصبح لازماً تداول تاريخ فلسطين، وجغرافيتها على شبكات التواصل الاجتماعي تذكيراً دائماً بها، وبكونها رباطاً تلتف حوله الأمة لا ينبغي التفريط فيه.
كما يجب التذكير الدائم بالمسجد الأقصى، وتأليف الروايات والقصص للأطفال حوله وحول فضائله وفضل دياره، ليظل الطفل مرتبطاً بالمكان دائماً سائلاً: فلماذا لا نذهب إليه؟
لقد نهض علماء الأجناس البشرية لمحاولة التعرف على فرية اليهود في انتسابهم ليعقوب عليه السلام، فجاء في دراسة «لوثروب ستودارد»، عالم الأجناس: إن الوثائق الموجودة لدى اليهود أنفسهم تقر بأن 82% من المنتسبين إلى الحركة الصهيونية السياسية هم من الأشكناز المدعوين باليهود، ولكنهم ليسوا ساميين، وقام أنثروبولوجي بريطاني بدراسة على يهود «إسرائيل» انتهى فيها إلى أنّ 95% من يهود اليوم ليسوا من بني إسرائيل(2).
لقد آلت القوة لهؤلاء المشردين الذين بلا أساس، فماذا حدث؟ يقول الشيخ الغزالي رحمه الله: «إن اليهود اليوم في أقوى مراحل حياتهم وأذكاها، وقد استطاعوا أن يسخّـروا قوى هائلة في إقامة دولتهم «إسرائيل»، فهل شمَّ أحد رائحة التقوى والسمو في النشاط الديني الذي تقوم الصهيونية تحت رايته؟ وهل شمَّ أحد بريقاً من خير وعفة في قيام «إسرائيل» تحمل لقباً لواحد من الأنبياء؟
الواقع أن بني إسرائيل من وراء الكبوة الخطيرة التي تعانيها الإنسانية هنا وهناك، ومن الحماقة التماس هدى للعاملين في شيء عندهم»(3).
إن تبديد حالة الزيف التي أحاطت بالكيان، والسعي الحثيث في اقتلاعه من جذوره، كما بدأ؛ لهو تخليص للإنسانية كلها من شر مستطير وخطر داهم، ونار ما إن تخبُ في مكان حتى تلتهب في غيره بفعلهم، فإنهم محركو الفتن، ومشعلو القتال وتجار السلاح لكلا المتنازعين، ودورة الزمان اليوم لهم، لكنها لن تتوقف عندهم، وللنصر رجال إن لم نكن منه، فلا أقل أن نكون من صنَّاعه وواضعي أساسه.
_________________________________________
(1) سفر التثنية، الإصحاح الحادي عشر، 23/24.
(2) https://samanews.ps/ar/post/417200/A.
(3) ركائز الإيمان بين العقل والقلب، ص 22.