المتتبع لدور الفقهاء على مدار تاريخ الأمة، سيجد أنه دور إيجابي وفعَّال، بل كان الفقهاء هم المحرك للمجتمعات الإسلامية، وهم قادة المجتمع المدني فيه، والناس لهم فيه تبع، وذلك لأكثر من اعتبار؛ أهمها أنهم لم يكونوا يزاحمون أهل السياسة مناصبهم، وإنما كان دورهم دور التوجيه والإرشاد، وإعادة المجتمع إلى بوصلة الإسلام، هذا فيما يخص القضايا الداخلية.
أما ما يخص القضايا الخارجية، وعلاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول، فقد كان دور الفقهاء يمثل الرؤية الإستراتيجية للأمة من خلالهم، وفي الدفاع عن قضايا الأمة كانوا هم المرجع والصوت الأول الذي تسمعه الطبقة الحاكمة قبل الطبقة المحكومة، ورغم قيام بعض الإمارات في العالم الإسلامي بتجاوزات تصل إلى حد الخيانة الكبرى، من خلال التواصل مع الإمبراطوريات الكبرى آنذاك، والاستعانة بأعداء الإسلام للانتصار في الحرب الداخلية بين الأمراء في الولايات والإمارات الإسلامية؛ فإن الفقهاء لم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام تلك الخيانات، بل كانوا يملكون من الأسلحة المعنوية ما يردعون به تلك الخيانة، أو يساعد على مواجهتها والحد منها.
وهذا الدور التوجيهي للأمة من الفقهاء أضحى دوراً غائباً أو باهتاً، وهو ملمح يجب أن يرصد في تحليل موقف الفقهاء المعاصر من قضايا الأمة، وانحسار دورهم في أدوار ثانوية رسمت لهم، وقد التزموا، طوعاً أو كرهاً.
ضم أجزاء من الضفة للكيان الصهيوني
ولعل مؤشر الأداء للفقهاء في قضية فلسطين دليل على انحسار دورهم في قضايا الأمة الكبرى، فمع بدايات الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين إلى يومنا هذا، نلحظ أن مؤشر أداء العلماء في هبوط وانحسار، سواء في معركة الوعي أو على مستوى التحريك والتغيير.
فعلى مستوى الوعي، وجدنا أصواتاً من المنتسبين إلى العلم يعتبر الكيان الصهيوني دولة صديقة، وبيننا وبينها معاهدات، ويدعي وجوب احترامها، متناسياً أن جهادهم وطردهم من أرض الإسلام واجب كفائي، في الوقت الذي يفتون فيه بمعاداة الفصائل الفلسطينية ووصفها بالإرهابيين، رغم أنها هي التي تقوم بواجب الجهاد الشرعي، بل ثبت لقاء بعض المنتسبين إلى العلم في دولنا العربية مع بعض قادة الكيان الصهيوني على مرأى ومسمع من العالم.
بنود الخطة
أما طبيعة خطة الضم الذي يقودها رئيس وزراء الكيان الصهيوني، فإنها تتلخص في ضم 30% من المستوطنات غير القانونية وغور الأردن الإستراتيجي وشمال البحر الميت، ولها ثلاثة سيناريوهات محتملة:
الأول: ضم جميع أراضي المنطقة المصنفة “ج” بالضفة الغربية، وهي تحت سلطة الاحتلال بموجب اتفاقيات أوسلو، ويشمل غور الأردن وجميع المستوطنات غير القانونية التي تضم حوالي 400 ألف مستوطن إسرائيلي.
الثاني: ضم غور الأردن إلى “إسرائيل”، وبه 56 ألف مواطن فلسطيني و11 ألف مستوطن إسرائيلي.
الثالث: وهو أقرب السيناريوهات للتطبيق من قبل الكيان الصهيوني فهو ضم بعض الكتل الاستيطانية المهمة، مثل: مستوطنة معاليه أدوميم الواقعة بين القدس الشرقية المحتلة والضفة الغربية، ومستوطنة غوش عتصيون الواقعة قرب مدينة بيت لحم الفلسطينية، ومستوطنة أرييل الواقعة وسط الأراضي الفلسطينية وتطل على مدينة نابلس.
وترجع أهمية ضم تلك المستوطنات إلى فصل أجزاء كثيرة من الضفة الغربية عن القدس المحتلة وبيت لحم، وخلق جيوب إسرائيلية في قلب أي دولة فلسطينية مستقبلية.
المخالفة للقوانين الدولية
ورغم الاتفاقيات الدولية الجائرة مع الكيان الصهيوني، التي هي مرفوضة وغير جائزة من الناحية الشرعية، فإن خطة الضم غير قانونية بموجب القانون الدولي والاتفاقيات الدولية التي أبرمتها السلطة الفلسطينية مع الكيان الصهيوني.
وخلاصة خطة ضم أجزاء من الضفة الغربية تحت سيطرة الكيان الصهيوني هو زيادة في الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية، وهو ممنوع شرعاً، وإن المساعدة فيه أو الرضا عنه، أو السكوت عنه، خيانة لله ورسوله وللأمة، وقد جاء النهي عن خيانة الأمة صريحاً في القرآن، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27].
واجب العلماء من الخطة
الواجب على علماء الأمة القيام بدورهم، خاصة أن خطة الضم مرفوضة من قبل الدول العربية بما في ذلك السلطة الفلسطينية التي هددت بإعلان إلغاء جميع الاتفاقيات السابقة؛ مما يعني أن قيام الفقهاء بدورهم لا يتناقض مع المصالح السياسية، بل قد يكونون عوناً للسلطات في العالم العربي في رفض هذه الخطوة.
والمسؤولية على العلماء والفقهاء والمفكرين للأمة اليوم يجب أن تأخذ منحى مختلفاً، فالمطلوب عمل خطة إستراتيجية، يكون لها أبعادها المتنوعة، من البعد العقدي والديني وتحريك الشعوب نحو رفض تلك الخطة ومساندة الحكومات العربية الرافضة لهذه الخطوة، وكذلك البعد الإعلامي الذي يبين أضرار تلك الخطة، والبعد السياسي وتوظيف الإعلان عن تلك الخطة في توحيد الموقف العربي، وتنويع وسائل الضغط على الكيان الصهيوني ومخاطبة النخب الغربية وطلب المساندة في إيقاف هذه الخطة، بما في ذلك توظيف الدبلوماسية الشعبية من خلال مخاطبة المفكرين الغربيين المنصفين، ومخاطبة النظم الغربية باسم علماء المسلمين، وإحياء دور العلماء في إيقاظ الأمة، وقيامهم بالدور الحضاري في صيانة الأمة وحمايتها، والنصح للنظم الإسلامية التي تدافع عن قضايا الأمة ومساندتها في مثل هذه الجهود المباركة، وهو من البيان الذي أخذ الله تعالى العهد على العلماء أن يقوموا به، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ } [آل عمران: 187]، وهم بذلك يقومون بوظيفة الأنبياء التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أصحاب السنن: “وإن العلماء ورثة الأنبياء”.
ولعل أدوار الفقهاء اليوم باتت أكثر تعقيداً من العقود السابقة، مما يتطلب تفكيراً إستراتيجياً، ووضع خطط طويلة المدى ومتوسطة المدى وقصيرة المدى، وإن دور العلماء لم يعد محصوراً في المساجد وإقامة الشعائر التي هي جوهر الإسلام، بل يجب أن تتعداه إلى الأدوار الكلية والحضارية التي تعيد العلماء والفقهاء إلى الأمة قبل منع احتلال أراض هنا وهناك، فإن الفقهاء هم روح هذه الأمة، فإذا استقاموا؛ استقامت الأمة، وإن قاموا بدورهم قامت الأمة.
ولعل قيام الفقهاء بدورهم في هذه المرحلة يعيد بعضاً من الانفصال التاريخي بين السلطة السياسية والسلطة الدينية، فليس مطلوباً شرعاً الخصام والانفصال بين السياسة ممثلة في الأنظمة، والدين ممثلاً في العلماء، بل الواجب التعاون والتقارب فيما يرضي الله تعالى، ويحفظ للأمة كرامتها، ويحفظ لبلاد المسلمين الوحدة الوطنية القائمة على تحقيق المصالح الدينية والدنيوية.