جمع المال من حيث يستطيع.. وغامر من أجل الحصول عليه في أحيان كثيرة.
وذات مرة أعلن تاجر تعامل معه عن خفض سعر صفقة بينهما بنسبة تقارب الثلث لسبب خارج عن إرادته؛ ففوجيء الحاضرون بمُحب المال يميل ليلتقط يد التاجر محاولًا تقبيلها لكي لا يفعل؟!
يومها قال التاجر إنه سيعوض الخسارة من جيبه الخاص لكي لا يفعل الرجل ذلك الأمر ثانية، وكان الأخير من الغضب والثورة بمكان لم يُشك أحد من الحاضرين في أنه يُعاقب نفسه لدخوله في الصفقة؛ رغم أنه لا ذنب له في الخسارة؛ فما كان من “صاحبنا” إلا أن حاول تقبيل يد المسؤول ثانية!
وعاش “الرجل” يظن الحياة مجرد “استحواذ” على المال وحصول عليه من حلال أو من غيره؛ وفي نهاية المطاف تعرض لعملية نصب ابتلعت الملايين التي ادخرها من حل ومن حرام .. فسقط من فوره مشلولًا وغادر الحياة بعد حين.
تعلقتْ نفس رجل آخر بامرأة فلم ير الحياة إلا في قربها؛ وسعى حتى يتزوجها؛ رغم رفض والده المُطلق لها لعلمهما بأنها لا تُناسبه ولن تُخلص له، وبعد الزواج رأها ـ بأم عينه ـ تبذر ماله؛ وتُبعد أهله وفي مقدمتهم أبوه وأمه عنه بسبب لرفضهما زواجها منه، ولكنها أنجبت له ولدًا تلو الآخر حتى شلت قدرته على طلاقها؛ فعاش حزينًا مُنكسر الروح يتمنى لو لم يتزوج من الأساس، أو أنه لم يخالف رأي والديه.
قصص لا تنتهي حول أناس رأوا أن الدنيا بزينتها ولهوها ومتاعها منتهى أملهم، فعاشوا فيه طولًا وعرضًا وأفسدوا؛ فمنهم من استأثر بميراث إخوته كله، ومنهم من تجبر على الضعفاء من خلق الله، وفيهم الذي لم يكن ليرتاح إلا إذا تفنن في إيذاء الناس في أعمالهم و”لقمة عيشهم”؛ ومنهم مَنْ استأثر بالخيرات لأهله وولده وحرم منها مستحقيها .. وهو فرح جزل أنه ينال ما لم يستطع غيره انتزاعه منه.
وفي حوايا ودواخل قلوب هؤلاء جميعًا شعور بالوحشة لا ينقضي، وعنكبوت “عشش” بخيوطه الدقيقة الأكثر حدة من السيوف حتى لا يستطيع أن يصلي ركعتين لله في جوف الليل؛ أو يستجيب لنداء الله لصلاة الفرض؛ وحين يمر واحدهم بالذي هو أدق منهم حالًا وأفقر أموالًا؛ ويراه سعيدًا قرير العين منبسط الوجه يتعجب ويتهمه بالبلاهة.
ومن جميل ما يتعلمه المرء، بعد حياة مليئة بالخبرة والتجارب والآلام قبل الأفراح؛ ألّا راحة في هذه الحياة الدنيا إلا في طاعة الله والأنس إليه تعالى باتباع تعاليمه والابتعاد عما نهى عنه.
فلا المال ولا الولد ولا العقارات ولا المعادن الثمينة والنفيسة تعادل لحظة راحة واطمئنان تعم قلب أحدنا لأنه لم يسيئ لأحد في هذه الحياة الدنيا الفانية؛ ولم يحمل على ظهره ما ينوء هذا الظهر به حينما يلقى خالقه يوم القيامة:
(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) الآية (20) من سورة الحديد.
أما الراحة والنعيم الحقيقيان فيكشف عنهما قوله تعالى:
(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الآية (28) من سورة الرعد.
ذلك أن الجسد المحيط بالإنسان يجذبه إلى مادة الطين التي خلق منها؛ والأخيرة خلق الله منها جميع الملذات من الطعام والشراب وطيبات الدنيا؛ ومنه أيضًا (الطين) تستخرج المواد الخاصة بالبناء والعقارات.
ويروح الإنسان يضرب في الأرض .. شمالًا وجنوبًا شرقًا وغربًا؛ مُتناسيًا أن لكل شيء مُخترعٌ ومُوجودٌ في هذا الكون “دليل تشغيل (كتالوجًا)” لا يصح استخدامه، أو يطول عمره إلا بمراعاته.
أما الإنسان فليست راحته في الهرولة شرقًا وغربًا كالوحش أو الحيوان الطاغي الذي لا يرى إلا المتع وكأنها ستُخلده في هذا الوجود؛ وللحقيقة فلا يضير الإنسان أن يسعى في الأرض ليعمرها ويخلف الله فيها وينال من متعها بشرط ألا ينسيه ذلك كله خالق السموات والأرض والمتحكم فيهما سبحانه؛ وأن راحة كل منا في عبادة الله والصلة به.
تتنزل الطمأنينة على البشر بطاعة الله والأنس إليه؛ فهو وحده سبحانه مالك الإنسان الأدرى بما يريحه وبما يرهقه ويشقيه؛ وما يريح المرء أكثر من القرب من بارئه الذي إن رضي عنه جعل الخلق والبشر يرضون ويحبون؛ وإن غضب عليه حال دونه ودون محبة الأخيار من البشر؛ بل نزع السكينة والطمأنينة من نفسه فراح يهيم هنا وهناك ظانًا أنه يمكن أن يرتاح في غير معية مولاه؛ فخذلته نفسه قبل أن تخذله الدنيا!
اللهم اجعلنا ممن يحبونك حق محبتك فترضى عنهم وتُرضي عنهم عبادك وتدخر لهم أجر وثواب الآخرة .. وتملأ نفوسهم بهم في الدنيا فلا تشغلهم عنك .. سبحانك!