إن التاريخ المسّجل للقومية الإيرانية، وبالأحرى الفارسية، يعود إلى حكم الملك الأخميني الهخامنشي داريوس الكبير (حكم من 29 سبتمبر 522 إلى أكتوبر 486 ق.م)، حيث ذكر في النقش المنسوب إليه (نقش رستم)، شدد درايوس على العصبية الفارسية وأعلن أن الخط الآري للإيرانيين مرتبط بالعالم القديم، جاء في النقوش: “أنا درايوس، الملك العظيم، ملك الملوك، ملك البلدان التي تتضمن كل أنواع البشر، ملك هذه الأرض الكبيرة والواسعة، إبن هيستاسبيس، الفارسي، ابن الفارسي، الآري، الذي يتحدر من جذور آرية”.
التاريخ المسّجل الثاني هو لأعظم شاعر ملحمي إيراني الفردوسي، الذي كرَّس حياته للحفاظ على الهوية القومية الإيرانية، عبر كتابة (شاهنامه)، الذي ألفه عام 1010م في 60 ألف بيت، وهي ملحمة فنية رائعة، وقد ورد في شاهنامة العديد من الأبطال القوميين الفرس، الذين قاتلوا لإبقاء بلادهم منتصبة على قدميها.
ويرجح البروفيسور تشارلزميلفيل (أستاذ التاريخ الفارسي في جامعة كمبريدج) العثور على الجزء الأكبر من الكتاب في الهند في القرن التاسع عشر ونقله لإيران، ويضيف قائلاً: إن قارئ الكتاب يشعر وكأن الفردوسي كان يرثي الإمبراطورية الفارسية الساسانية، ومضى يقول: لم يكن الفردوسي من شعراء البلاط، ومن المحتمل أنه كان متعاطفاً مع الزرادشتيين، أتباع الدين الذي سبق الإسلام في فارس (إيران)، لذلك لم يكن مقبولاً من السلطات الدينية أيضاً، ومن جانب آخر يعتبر الكثيرون أن مكانة الفردوسي في الثقافة الإيرانية تماثل مكانة شكسبير في الأدب الإنجليزي، وهوميروس في الأدب الإغريقي القديم.
والفردوسي هو أول من شتم العرب بشرب بول البعير في كتابه “شاهنامه”، وهو من أعظم كتب الفرس، ويعتبر قرآن القومية الفارسية، و”الشاهنامه” تعني لغوياً “كتاب الملوك”، أو “كتاب التيجان”.
والحكيم أبو القاسم الفردوسي، أكبر شاعر ملحمي فارسي، وأحد ألمع وجوه الأدب في العالم، ولد بطوس الإيرانية في أسرة إقطاعية ذات أملاك وضياع، اسمه المنصور بن الحسن، اختلف المؤرخون في عام ولادته ووفاته أيضاً، ويستشف من القرائن التي وردت في شعره أنه ولد بين عامي 324، و329هــ، وتوفي في عام 411 أو 416هــ، ومن تلك الشواهد نجد أن كتاب “الشاهنامه” الذي هو أحد أهم أدبيات إيران كيف يمتدح فيه الفردوسي قتل الصحابي الجليل عبدالله بن حذافة السهمي، سفير النبي صلى الله عليه وسلم إلى خسرو أبرويز (كسرى الثاني)، ملك الدولة الساسانية، حيث يقول: كه آمد فرستاده يي پیرو سست، نه اسب و سليح ونه چشمي درست، يكي تيغ باريك برگردنش، پديد آمده چاك پیراهنش.
وترجمتها بما معناه: لما جاء ذلك المرسال (رسول) الخوار الذي كان أعور العين ولم يكن يمتلك فرساً أصيلة، بانت شفرة السيف الحادة بين رقبته وقميصه.
وهذان البيتان هما من ضمن قصيدة طويلة تضمنها ديوان الفردوسي في سب العرب المسلمين، هذا الديوان الذي قدمه الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي هدية إلى البابا يوحنا بولس الثاني خلال زيارته الفاتيكان في عام 1999م، وذلك تعبيراً عن حسن نواياه وترويجاً لمشروعه حوار الحضارات!
وهناك نماذج أخرى من الانتقاص والتحقير للعرب المسلمين الذي كتبها الفردوسي في “الشاهنامه”، ومنها تلك الأبيات التي يقول: زشير شتر خور دن وسو سمار، عرب را بجايي ر سيد أست كار، كه تاج كيانرا كند آرزو، تفو باد برچرخ كردون تفو.
وقد ترجمها د. محمد علي آذر شب، الملحق الثقافي الإيراني السابق في دمشق، وأستاذ الأدب العربي بجامعة طهران هكذا:
من شرب لبن الإبل وأكل الضب بلغ الأمر بالعرب مبلغاً
أن يطمحوا في تاج الملك فتبا لك أيها الزمان وسحقاً
وهناك أبيات أخرى مماثلة للفردوسي في “الشاهنامه”، ومنها قوله: سك در أصفهان آب يخ مي خورد عرب در بيابان ملخ مي خورد
وترجمتها: الكلب في أصفهان يشرب ماء الثلج، والعربي يأكل الجراد في الصحراء.
وعلى الصعيد نفسه، ذكرت وكالة “مهر” الإيرانية للأنباء، في أبريل 2005م، أن وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي محمد حسين صفارهرندي قال في احتفال أقيم لدراسة أعمال الفردوسي: إن الإساءة للفردوسي هي مقدمة للإساءة والعدوان على إيران، وقال الوزير: إن على الشعب الإيراني التزود بحماسة الفردوسي لمواجهة الأعداء.
ففي عام 1897م، تأسس المجلس العام لزرادشتيي طهران، في منطقة خان مشير في طهران، وفي عام 1914م تم بناء معبد النار الزرادشتية في طهران (= آتشكده آدريان) في شارع سيتير بمساعدة جمعية البارسيين الهنود والجالية الزرادشتية في طهران، بأمر من أرباب كيخسرو شاهروخ، وتحت رعاية موبيدي مدينة يزد (= المقر الرئيس لزرادشتيي إيران)، وبنوا لأجلها معبداً وفق الطراز البارسي (= على غرار معابد النار في بومباي في الهند)، ووضعوا النار في وعاء معدني ليراها كل متعبد يدخل المعبد.
وكان التاجر والصيرفي الزرادشتي (جمشيد باهملن جمشيديان) قد حافظ على النار المقدسة (= دادكاه) في بيته قبل أن يشعلها (أعضاء المجلس الزرادشتي) في معبد طهران، وفيما بعد صار(جمشيد) من أغنى الناس وأكثرهم نفوذاً وتأثيراً في أواخر العهد القاجاري في إيران، وهو الذي ساند ودعم الحركة الدستورية في إيران، وبعد صعوبات كثيرة دعي مجلس البرلمان للانعقاد في عام1906م، وأصبح التاجر الزرادشتي (جمشيد) أحد أول النواب في المجلس الجديد، وهكذا تعلق البروفيسورة البريطانية ماري بويس، المختصة بالزرادشتية، على هذا الحدث بالقول: هكذا دوى الصوت الزرادشتي من جديد في برلمان إيران الحاكم بعد أكثر من ألف عام، وفي سنة 1909م قُررَ بأن تنتخب كلُ أقلية قومية في إيران ممثلاً لها في البرلمان. (ينظر: ماري بويس، تأريخ الزرادشتية من بداياتها حتى القرن العشرين).
ومن جانب آخر، أصبح أرباب كيخسرو شاهروخ أول نائب زرادشتي في البرلمان الإيراني، وهو من عائلة كرمانية قديمة ومتعلمة، أرسل عندما كان صغيراً للدراسة عند البارسيين الزرادشتيين في مدينة بومباي بالهند، حيث بهرته نجاحات البارسيين هناك، فضلاً عما عرفه عن المجد الغابر لتاريخ إيران القديم، وفي القرن التاسع عشر، انتشر اسم كورش، مؤسس السلالة الأخمينية الفارسية بين البارسيين الزرادشتيين، واعترف بالقرص الدائري من العاصمة الأخمينية الفارسية القديمة (= برسيبوليس) رمزاً للزرادشتية، وعلق بفخر على البوابات الخارجية أمام أعين الجميع لمعابد النار والمدارس والمؤسسات الزرادشتية في إيران والهند.
في سنة 1925م وافق البرلمان الإيراني تحت ضغط كيخسرو على استخدام الأسماء الزرادشتية لشهور التقويم الشمسي، وفي السنة نفسها عزل البرلمان آخر ممثل من سلالة القاجاريين، ورشح بدلاً عنه رئيس الوزراء السابق رضا خان بهلوي، ولذا سعى رضا خان كثيراً من أجل تقوية الشعور بالفخر القومي من خلال الاهتمام الكبير الذي أولاه لعظمة الإمبراطوريات الإيرانية السابقة: الأخمينية، والبرثية، والساسانية؛ وبهذا الشكل تطابقت أهداف الشاه مع الأهداف الزرادشتية.
وعندما تم تتويج رضا خان بهلوي شاهاً على إيران، في عام 1925م، ألقى رئيس وزرائه محمد فروغي (1877 – 1942م) خطاباً مجّد فيه التاريخ الإيراني قبل ظهور الإسلام، مصرّحاً أنّ الأمة الإيرانيَّة اليوم استولى عليها شاه ينحدر من العرق الإيراني الخالص، ثمّ أخذت تعود ملامح إيران القديمة حتى في تسمية الكثير من الأماكن والمدن، وطبعت صوره ببهاء مع صور: زرادشت، وكورش، وداريوس الاول، وغابت تماماً الرموز الإسلامية عن تلك الصور، وأدخل الشاه، في عام 1934م، تدريس الكتاب المقدس الزرادشتي (= الآفستا) وفلسفتها إلى كلية الآداب في جامعة طهران بعيد تأسيسها في نفس السنة، وزينت الأبنية الحكومية بشعارات وصور الآلهة المجنحة من العصر الأخميني، كما أصدر البرلمان الإيراني قانوناً ينص على المساواة ويعاقب كل من يتطاول على الزرادشتيين، ودعمت الحكومة العلاقة بين زرادشتيي الهند (= البارسيون) وزرادشتيي إيران، وأهدى مجلس البارسيين نصباً تذكارياً للشاعر الإيراني الفردوسي عام 1934م بمنسبة مرور 1000 عام على مولده، وما زال هذا النصب قائماً في وسط طهران، كما صدرت في عهده مجلات ودوريات زرادشتية وبرامج إذاعية حول تأريخها.
وعلى الصعيد نفسه، فقد شاركت شخصيات إيرانية من غير الزرادشتيين في دعم الجهود الزرادشتية من أجل إحياء تاريخ إيران القديم وبعث التراث الزرادشتي من جديد، وكان على رأس هؤلاء د. إبراهيم پور داود (1886-1968م) الذي بدأ بترجمة كتاب “الآفستا” بأجزائه المتعددة من اللغة البهلوية إلى اللغتين الفارسية والإنجليزية معاً بدعم سخي من المجلس الزرادشتي في إيران وبومباي- الهند، وتم طبع “الآفستا” اعتباراً من عام 1926 حتى 1964م، حيث اكتمل الكتاب، ما عدا كتاب “الوندياد” فهو أحد أعماله غير المنشورة، وكان المستشرق الفرنسي دار مستاتر قد ترجمه إلى اللغة الفرنسية، ثم قام العالم العراقي د. داود الجلبي الموصلي بترجمته إلى اللغة العربية.
وفي عام 1938م أصبح د. إبراهيم پورداود، أحد أساتذة جامعة طهران، وفي يوم الثلاثاء الموافق 8 سبتمبر 1942م أشرف پورداود على الأطروحة التي قدمها محمد معين لنيل درجة الدكتوراه بعنوان “مازديسنا وتأثيرها في الأدب الفارسي”، ومعناها “تأثير ديانة عباد مزدا على الأدب الفارسي”، وتم قبول أطروحته على أنها “جيدة جدًا”، وكان من ضمن المناقشين العالم الإيراني ملك الشعراء، وتم الاعتراف بمحمد معين كأول خريج لدورة الدكتوراه في الأدب الفارسي في إيران، ومنذ ذلك الحين انتخب أستاذاً مشاركاً ثم أستاذاً لمادة “البحث في النصوص الأدبية” في كلية الآداب، جامعة طهران.
ويظهر أن د. محمد معين كان خاضعاً لتأثير أستاذه، وهذا ما يبدو واضحاً في المقدمة التي دبجها المشرف د. إبراهيم پور داود، بالقول: “إنّ الروح الإيرانيّة على امتداد تأريخ إيران لعدّة آلاف من السنين، حتّى في العصر الإسلامي، هي الروح الزرادشتيّة، وإنّ أيّ عامل لم يستطع إخضاع هذه الروح لتأثيره ونفوذه، بل على العكس، فإنّ هذه الروح قد أثّرت في ذلك العامل”، وعلى سبيل المثال: “إنّ الدين الذي جاء به الفاتحون العرب إلى الإيرانيّين قد اكتسب هنا صبغة وواجهة إيرانيّة فصار يُدعى تشيّعاً، وامتاز بذلك عن مذاهب أهل السُّنّة “(التي تمثّل الإسلام الصحيح حسب عقيدة پور داود).