المتتبع لتواريخ نشأة الفرنكوفونية وتطورها يتأكد أنها الوجه الآخر للاستعمار وفرض الهوية والتبعية للحضارة الفرنسية من خلال بابها الواسع وهو اللغة، وأن بداية الفرنكوفونية وظهورها للنور بشكلها المعروف في فترة خروج فرنسا من مستعمراتها ليس مصادفة، بل هو الخطة الاستعمارية البديلة عن الاستعمار المباشر الذي أسست له فرنسا بعد دحرها على يد المقاومة المسلحة.
في دوريته الشهيرة، بتاريخ 16 يونيو 1921م، إلى ضباط المخابرات ورؤساء المناطق العسكرية والمدنية المغربية، يقول الجنرال «ليوطي»: «ليس علينا أن نعلِّم العربية لمجموعات من الناس استغنوا عنها دائماً (في إشارة إلى البربر)، إن العربية عنصر أسلمة لكونها لغة القرآن؛ أما مصلحتنا فتفرض علينا أن نجعل البربر يتطورون خارج إطار الإسلام، ومن الوجهة اللسانية علينا أن ننزع إلى المرور مباشرة من البربرية إلى الفرنسية، ولهذا نحتاج إلى عارفين بالبربرية، ويتوجب على ضباط مخابراتنا أن ينكبُّوا بعزم على دراسة اللهجات البربرية، كما يلزم خلق مدارس فرنكو-بربرية حيث نعلم الفرنسية للبربر الشباب».
وفي فبراير 2018م، وقف الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» في العاصمة التونسية قائلاً: «إن تونس ستكون خلال سنتين قاعدة جديدة لتعليم اللغة الفرنسية، وسوف تساعد الفرنكوفونية التونسيين والتونسيات على النجاح في عدة مجالات وفي دول مختلفة».
وأضاف أن الفرنكوفونية ليست مشروعاً قديماً، بل هي مشروع مستقبلي، فتحدث اللغة الفرنسية تعد فرصة حقيقية، على المستويات اللغوية والاقتصادية والثقافية، وقال: أتمنى أن تحيا الفرنكوفونية في بلادكم، محدداً هدف مضاعفة عدد متعلمي الفرنسية خلال سنتين (أي حتى عام 2020م، وهو موعد انعقاد قمة الفرنكوفونية بتونس التي كان مقرراً لها ديسمبر المقبل، وتم تأجيلها بسبب جائحة «كورونا»).
اللغة إذن هي الباب الواسع الذي دخلت منه الفرنكوفونية مستهدفة أحد أهم مفاتيح الهوية العربية والإسلامية وغيرها من الهويات التي تحاول فرنسا اقتلاعها وتثبيت ما تريده من هوية غربية ذات طابع فرنسي.
وفي ذلك يقول يقول د. عمر النمري، في مقال له بعنوان «الفرنكوفونية استعمارٌ أم استخرابٌ؟»: «لا شك عندي في أن الفرنكوفونية إنما استهدفت تنحية اللغة العربية، ومن ثم استبعاد الثقافة الأصلية للشعوب المستعمَــرة؛ لا بل استبعاد الدين الإسلامي والحضارة الإسلامية لهذه الشعوب؛ ولا سيما أن أغلب الشعوب الأفريقية تدين بالإسلام وتنتسب إلى الحضارة الإسلامية؛ وذلك بهدف إحلال الفرنسية محلها وتحقيق الإلحاق الثقافي والحضاري، لا بل الإلحاق الجغرافي أيضاً كعزمهم السابق على إلحاق الجزائر بالقطر الفرنسي».
ويقول «بول مارتي»، في كتابه «مغرب الغد» (ص 338): «.. إن كلَّ تعليمٍ للعربية، وكلَّ تدخلٍ من الفقيه، وكلَّ وجودٍ إسلامي، سوف يتم إبعاده بكل قوة؛ وبذلك نجذب إلينا الأطفال الشلوح (البربر) عن طريق مدرستنا وحدها، ونبعد متعمدين، كل مرحلةٍ من مراحل نشر الإسلام».
ويقول «دي روفيكو»: «إني أنظر إلى نشر تعليمنا ولغتنا كأنجع وسيلةٍ لجعل سيطرتنا في هذا القطر (الجزائر) تتقدم في إحلال الفرنسية تدريجياً محل العربية؛ فالفرنسية تقدر على الانتشار بين السكان خصوصاً إذا أقبل الجيل الجديد على مدارسنا أفواجاً أفواجاً».
المهمة الصعبة
هناك إذن وعي لدى الفرنسيين بمدى أهمية اللغة كباب يسهل من خلاله الدخول للسيطرة على العقول، وقد بدا ذلك الوعي حاضراً لدى بعضهم منذ عصر الاستعمار، حيث يقول مثلاً «جورج هاري»، مدير التعليم في المغرب خلال الفترة الاستعمارية: «إن انتصار السلاح لا يعني النصر الكامل؛ إن القوة تبني الإمبراطوريات، ولكنها ليست هي التي تضمن لها الاستمرار والدوام، إن الرؤوس تنحني أمام المدافع؛ في حين تظل القلوب تغذي نار الحقد والرغبة في الانتقام، يجب إخضاع النفوس بعد أن تم إخضاع الأبدان، وإذا كانت هذه المهمة أقل صخباً من الأولى؛ فإنها صعبة مثلها، وهي تتطلب في الغالب وقتاً أطول».
ويعلق د. إدريس جنداري على ذلك قائلاً: «وإذا كان إخضاع النفوس والعقول خلال المرحلة الاستعمارية مرتبطاً بإخضاع الأجساد عبر السلاح؛ فإن اضطرار فرنسا إلى الانسحاب على وقع ضربات المقاومة؛ سيبطل الآلية الثانية؛ وفي الوقت نفسه سيفتح المجال أمام تضخم الآلية الأولى التي تعتمد الثقافة واللغة كأداة للسيطرة، وتغيير الهوية.
إذن استهداف اللغة كهدف رئيس للفرنكوفونية لم يأت عبثاً، بل كان ضمن مخطط شديد الخبث في محاولة توليد أجيال بعيدة عن مفردات دينها التي تعتبر اللغة هي الوعاء الحامل لها».
هناك دراسة استقرائية لحضور اللغة الفرنسية (أداة الفرنكوفونية) في العالم العربي لأستاذة الأدب المعاصر بجامعة القديس يوسف، كاتيا حداد، ضمن أعمال الندوة التي نظمتها جامعة الدول العربية والمنظمة الدولية للفرنكوفونية ومعهد العالم العربي بباريس، 31 – 30 مايو 2000م، إصدار «الإيسيسكو».
وقد أكدت الدراسة أمرين مهمين:
الأول: يرتبط بتراجع حضور اللغة الفرنسية في مجموع هذه الدول كلغة التواصل اليومي كما كان الأمر أثناء الاستعمار؛ «فقد مضى عهد كان فيه حضور اللغة الفرنسية أكثر تنوعاً، حيث كانت الفرنسية تجوب الشوارع؛ مما يعني أنها لم تكن محصورة في حيز المدرسة».
الثاني: وفي مقابل تراجع اللغة الفرنسية كلغة للتواصل اليومي، فإنها تعوض هذا التراجع عبر حضور كثيف في المدارس، كلغة أساسية في مناهج التعليم، وذلك باعتبارها أصبحت تقترن (من منظور الاستلاب اللغوي) بمؤشر من مؤشرات التنمية المتمثل في المدرسة.
ولذلك، تؤكد حداد أن تعلم الفرنسية في المدرسة قد يكون بمثابة استثمار على المدى البعيد، وتفسر ذلك باعتبار أن من يتعلم اللغة في المدرسة خليق أن يحافظ عليها فيما بعد؛ بحيث تصاحبه مدى حياته.
ومن خلال هذه الدراسة الاستقرائية يثبت بالأرقام الهيمنة التي أصبحت تمارسها اللغة الفرنسية في مجموعة من الدول العربية، فهي تخترق مؤسسات التعليم، باعتبارها لغة العلم والمعرفة الحديثة، في زمن لجأت فيه المؤسسات الأكاديمية الفرنسية نفسها إلى اللغة الإنجليزية!
وهذا الأمر –كما يرى د. إدريس الجندري- أكثر من محير، ويثبت بالملموس أن اللغة الفرنسية في هذه الدول ليست اختياراً بيداغوجياً يرتبط بمناهج التعليم؛ لأن هذه اللغة تثبت الآن أنها غير قادرة على مسايرة التطور العلمي الحاصل باللغة الإنجليزية، بل حتى باللغتين الصينية والألمانية وبعض اللغات الحية الأخرى.
تقول حداد: «وقد أتاحت لنا الدراسة الاستقرائية التي قمنا بها إبراز حقيقة أن الفرنكوفونية المدرسية تقدمت خلال العقد الأخير ولم تتأخر، وكان من أسباب هذا التطور انحسار تيار التعريب من المناهج الدراسية، فقد شهد العقد الأخير إعادة إدراج اللغة الفرنسية أو تقويتها في البرامج الدراسية بدرجات متفاوتة، وذلك في البلدان الآتية: تونس والمغرب وسورية ومصر، وفي لبنان، تم اعتماد مبدأ الازدواجية اللغوية المبكرة على مستوى الدولة، وهو مبدأ جاء ليزكي اختيارات السكان اللغوية، ويضفي طابعاً رسمياً على مكانة اللغات الأجنبية، وبخاصة مكانة اللغة الفرنسية، وكان هذا الإجراء أول سابقة من نوعها في هذا البلد».
إن ما يفسر هذا الحضور القوي للغة الفرنسية ضمن مناهج التدريس في مجموعة من الدول العربية يرتبط في العمق بأبعاد أيديولوجية ومصلحية، ترتبط بالهيمنة التي أصبحت تمارسها الفرنكوفونية على مستعمرات فرنسا السابقة؛ من خلال الحضور القوي للوبي الفرنكوفوني، الذي يتشكل من نخب ثقافية وسياسية واقتصادية، لا يهمها سوى الحفاظ على مصالحها الخاصة في علاقتها بالمستعمر السابق الذي نسجت معه شبكة من المصالح؛ الأمر الذي يحول اللغة لديها إلى أيديولوجيا تتجاوز كل حدود المنطق.