- الكتاب يمثل تجديداً ويمثل جديداً ويمثل تحديداً ويمثل تخليداً ويمثل تتويجاً
- استقلالية العلم وتأصيله وتقعيده على النحو الذي توجبه القواعد يمثل تخليداً لهذا العلم وتوسيعاً لمجال عمله وتطبيقاته
- يستفيد من الكتاب المتهيبون من استخدام المقاصد والمتسيبون المؤولون تأويلات فاسدة والمترددون في خوض غمار المقاصد
- عباراته جاءت واضحةً سلسةً قريبة على خلاف كثير من المؤلفين الذين يجنحون إلى الألغاز والإعجاز
- الكتاب يورث في النفس الثقة في تاريخنا وفي تراثنا وفي علمائنا أنهم لم يكونوا غافلين عن قواعد المقاصد
الحديث عن القواعد لكل علم آية على نضجه واكتماله وعمقه واستقلاله، وفي هذا الإطار صدر مؤخرا كتاب جديد لأستاذنا العلامة أحمد الريسوني، العالم المقاصدي ورئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين..
جاءت طبعة الكتاب الأولى 2020م عن مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية في لندن التابع لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي تلك المؤسسة التي لها أياد بيضاء على المقاصد وعلى علماء المقاصد في هذا العصر.
محتويات الكتاب
جاء الكتاب في 615 صفحة تضمنت مقدمة وتسعة أبواب وفهارس، تحدثت المقدمة حول تعريف القاعدة المقاصدية وفائدتها وأهميتها، ومنهجية الكتاب في تناول القواعد؛ حيث يذكر سياقها عند من أوردها، ومعناها، وأدلتها، وأمثلة تطبيقية عليها.
وقد جاءت أبواب الكتاب عن القواعد مقسمة إلى مباحث علم المقاصد إجمالا حيث بلغت هذه القواعد 80 قاعدة انتقاها من 200 قاعدة بعد التمحيص والتدقيق العلمي على نحو ما يفعل أئمة التدوين للسنة النبوية: البخاري ومسلم ومالك أحمد وغيرهم.
فأما الباب الأول فقد تناول قواعد المصالح ومكانتها في الشريعة الإسلامية، والباب الثاني تناول قواعد في التزكية والصلاح الإنساني، والباب الثالث تناول قواعد في السياسة الشرعية، والباب الرابع ذكر قواعد الموازنة والترجيح بين المصالح، والباب الخامس تناول قواعد في المشقة والتيسير، والباب السادس تحدث عن قواعد الوسائل، والباب السابع تناول قواعد مقاصد المكلفين، والباب الثامن ذكر قواعد الاجتهاد المقاصدي، وأما الباب التاسع والأخير فقد تحدث عن قواعد الكشف عن المقاصد.
ووضع المؤلف فهارس للمصادر والمراجع، وكشافا للمصطلحات، وكشافا للعناوين، وكشافا للمؤلفين.
ماذا يمثل هذا الكتاب؟
مع استحضار القيمة العلمية للحديث عن القواعد لأي علم فضلا عن علم المقاصد؛ فإن هذا الكتاب في نظري يُمثل عدداً من الأمور التي تمثل أهميته في سياق الحديث عن علم المقاصد؛ حيث إنه يمثل تجديداً ويمثل جديداً ويمثل تحديداً ويمثل تخليداً ويمثل تتويجاً.
أما التجديد فإن القواعد في كل علم وفي علم المقاصد على وجه الخصوص هي آلة وأداة قوية في يد المنتسبين لهذا العلم؛ وذلك للحكم على الأمور وللتجديد وللمعيارية والاستدلالية أيضاً وللضبط؛ فهذا الكتاب يمثل تجديداً في باب علم المقاصد من النواحي كلها كما يمثل أيضاً أداة للتعامل مع المنتوجات والإنتاجات التي تطرح في الساحة يوماً بعد يوم هل هي ملتزمة بهذه القواعد؟ هل هذه القواعد مفعلةٌ فيما ظهر وفيما كتب وفيما نشر أم لا؟
وأما الجديد فإن هذا الكتاب يسد ثغرةً كبيرة في بابه رغم أن هناك عملاً عملاقاً قبله وهو معلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية (41 مجلدا) التي تضمنت عدداً من المجلدات التي تتحدث عن قواعد المقاصد بلغت مائةً وستاً وثلاثين قاعدة، لكن هذا الكتاب يتميز بجدته من نواحٍ ذكرها أو أشار إليها المؤلف حفظه الله في المقدمة، وهو أن هذا العمل يأخذ مباشرةً ويستمد من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية بشكلٍ مباشر، وأنه بأمثلته التطبيقية الثرية والغنية يقدم فهوماً جديدةً تزيل إشكالات في التراث، وهذا يضيق الحصر عنه أو ضرب أمثلة له من الكتاب، كما أنه يقدم حلولاً لإشكالات وقضايا معاصرة وهذا ما أخذه المؤلف على نفسه في البداية أن الأمثلة التطبيقية -وهي أهم ما في هذا الكتاب- جاءت معبرةً ومغيرةً وجاءت ثريةً وغنية في الوقت نفسه، وهذا من الخصائص النادرة في المؤلفات الأصولية بشكلٍ عام؛ هذا الثراء في الأمثلة وهذا الغناء وهذه الفوائد والعوائد التي تعود على المنتسبين لهذا العلم والقارئين للقواعد بشكلٍ عام حينما يجدون الأمثلة معبرةً ومؤثرةً ومغيرة.
وأما التحديد لعلم المقاصد فهو يؤطر لهذا العلم ويحدد جوانبه ويرسخ معالمه ويعمق استقلاليته، وكذلك من باب أنه حدد إشكالات وأزالها، كما ورد في صفحة (6، و7، و8) من المقدمة.
وأما أنه يمثل تخليداً فإن استقلالية العلم وتأصيله وتقعيده على هذا النحو الذي توجبه القواعد يمثل تخليداً لهذا العلم وتوسيعاً لمجال عمله وتطبيقاته.
وأما ما يمثله الكتاب أخيرًا من تتويج فهو بالفعل لمسيرةٍ في التأليف عامة وقد أغنى المؤلف المكتبة الإسلامية بالتأليف في مجالاتٍ متنوعة: أصولية ومقاصدية وسياسية وحركية وتنظيمية وفكرية إلى آخره.
فهذا الكتاب في نظري هو تتويج لهذه التآليف عامة، ويعد أيضاً تتويجاً للتأليف في مجال المقاصد خاصة، وكذلك يمثل تتويجاً في قواعد المقاصد على وجهٍ أخص؛ حيث إن للمؤلف جهودًا في قواعد المقاصد سابقة على هذا الكتاب، مثل: “القواعد الأساس لعلم مقاصد الشريعة”، و”الفكر المقاصدي قواعده وفوائده”، وفي ثنايا كتبه لا شك أن هناك قواعد ربما لم يتعمد هو أن يكتب في القواعد في هذه الثنايا، وإنما المتتبع لمجملِ ما كتب سوف يستخرج قواعد أخرى لمصنفاتٍ غير التي ذكرنا.
من المستفيد من هذا الكتاب؟
الذي يستفيد من هذا الكتاب ثلاث جهات أو فئات:
الفئة الأولى: هم المتهيبون الذين يخشون من استخدام المقاصد وإعمالها واستعمالها والرجوع اليها والصدور عنها والاستنجاد بها، أولئك الذين يخشون أن تكون المقاصد بوابةً إلى العلمانية أو إلى التخلص من النصوص، ونافذة لضرب نصوص الشريعة بعضها ببعض، وإلى اتباع الهوى والتشهي، والانطلاق بعيداً عن سلطان الشريعة ومظلتها؛ فهذا الكتاب يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن المقاصد نصوص والنصوص مقاصد، ويشهد لهذا كل الاستشهادات والتطبيقات التي يرجع فيها المؤلف إلى نصوص الشريعة الإسلامية من كتابٍ ومن سنة بشكل واضح وجلي وقريب في الوقت نفسه؛ فرغم عمق مجال الكتاب وموضوعه فإنه قريب من القارئين.
الفئة الثانية: هم المتسيبون الذين ينطلقون وينعتقون ويؤولون تأويلات فاسدة، ويُقَوّلون الشرع ما لم يقل، الذين أسماهم شيخنا الإمام يوسف القرضاوي حفظه الله “الباطنية الجدد” كما سمى الفئة الأولى “الظاهرية الجدد”، وهذه الفئة المتسيبون سماها المؤلف “التقويليون” يعني الذين يتقولون على الشرع بما ليس فيه، فهؤلاء لهم في هذا الكتاب عبرة ولهم وقفة ينبغي أن يعلموا بها أن لهذا العلم قواعدَه وأسسَه وضوابطه التي يجب أن يصدر عنها من يتحدث في هذا العلم.
والفئة الثالثة: هم المترددون الذين يخشون من خوض غمار المقاصد؛ فهم مع أهل المقاصد ومع علماء المقاصد لكنهم في الوقت نفسه في صدرهم حرج وعندهم تردد؛ فهذا الكتاب يحسم هذا التردد بشكلٍ واضح، ويجعل الأمور واضحة بشكلٍ كبير.
كما يستفيد من هذا الكتاب المختصون في العلوم الشرعية الأخرى عامة، وكذلك العلوم الإنسانية؛ فضلا عن أنه يسهم بشكل ملحوظ في ترشيد حركة التفكير والتأليف في علم المقاصد.
مميزات التناول في الكتاب
تميز التناول واللغة في هذا الكتاب بعدد من الميزات، منها:
وضوح العبارة؛ فرغم عمق الموضوع وأنه يضرب بسهمٍ وافر في جذوره وفي صلب هذا العلم فإن عباراته جاءت واضحةً سلسةً قريبة على خلاف كثير من المؤلفين الذين يجنحون الى الألغاز والإعجاز بشكلٍ يصعب فهمه على من يقرأ ما يكتبون.
تميز التناول كذلك بدقة العبارة، والدقة ميزة في الحقيقة، وهي ميزة مطردة في مؤلفات أستاذنا الدكتور أحمد، ولو ضربنا لذلك مثالا سريعا في الصفحة الخامسة، يقول عن القاعدة المقاصدية: (فهي أولاً قواعد وصيغ تقعيدية بما يعنيه التقعيد من دقةٍ وإيجازٍ وعموم، كل كلمةٍ في مكانها ولها معنى بما يعني التقعيد من دقة وإيجاز وعموم، وهي معبرةٌ عن المقاصد العامة للشريعة. فلا تدخل فيها العلل والحكم والمقاصد الجزئية، وهي قواعد آمرة حاكمة موجهة) آمرة حاكمة موجهة، كل كلمة في مكانها ولها معنىً تشير إليه فتميزت عبارة هذا الكتاب بالدقة.
ومما تميز به تناول هذا الكتاب أنه يعتمد مبدأ ما قل ودل وهذه الكلمة عنوان كتاب للمؤلف “ما قل ودل” وهو يعتمد هذه القاعدة في مؤلفاته وفي كتاباته.
هذا الكتاب أيضاً جاء منطلقاً من النصوص الشرعية مباشرةً نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية.
كما جاء متصالحاً مع التراث، فهناك من العلماء من إذا كتب وأراد أن يبرز ما عنده من جديد يهاجم التراث ويهاجم العلماء، لكن هذا الكتاب جاء في صورةٍ متواضعة كأنما تشعر أنه يجمع ويلخص ويستخلص ما عند علمائنا من قواعد جاءت في ثنايا ما كتبوا وما ألفوا، وهو من هذه الزاوية جاء متصالحاً مع التراث مقدراً له، غير مقدس؛ لأنه أعمل النظر في بعض الأقوال، وأعمل آلة النقد فيها وهذا هو شأن العلماء الراسخين.
أيضاً تميز الكتاب بسعة آفاقه والاستفادة من حقولٍ معرفيةٍ أخرى؛ فهو يورد كلام العلامة أحمد زروق في كتابه “قواعد التصوف” ليستشهد به على أهمية القواعد وعلى فوائدها ووظائفها التي تؤديها، وهذا من سعة الاطلاع وسعة العلم وتوظيف ما يُقرأ في حقولٍ أخرى في الحقل الذي يتحدث فيه المستفيد.
هذا الكتاب أيضاً يورث في النفس الثقة في تاريخنا وفي تراثنا وفي علمائنا؛ حيث إن العلماء لم يكونوا غافلين عن قواعد المقاصد وإن لم يؤلفوا فيها بشكلٍ مستقل، أو يشيروا إليها بشكلٍ صريحٍ وواضح، وإنما كان الاهتمام بقواعد المقاصد ورعايتها وتحكيمها مستبطناً وحاضراً ومستحضراً فيما كتبوا وفيما ألفوا، فبين هذا الكتاب وجود هذه القواعد عندهم من قديم وأنهم كانوا يستحضرونها ويصدرون عنها.
ما ينقص الكتاب
اختتم المؤلف مقدمة كتابه بفتح الباب للاستدراك؛ ففي صفحة 14 قال: (ومما لا يحتاج إلى بيانٍ أو تأكيد كون هذا المؤلف الخاص بالقواعد المقاصدية إنما هو فاتحةٌ وبدايةٌ في طريق التقعيد المقاصدي، فكل أشكال الاستدراك عليه تبقى واردة ومطلوبة)، ومن هنا نختم هذه القراءة والرحلة الشيقة بتقديم بعض الملاحظات والمقترحات عسى أن تفيد في طبعة قادمة، أو يستدركها من يؤلفون في المجال نفسه مستقبلا، ومن ذلك:
الملحوظة الأولى: أن المقدمة في نظري جاءت متواضعة، ولا تليق بالجهد الكبير المبذول في هذا الكتاب، فيجب أن تتوسع المقدمة وتشمل أمورا توقف القارئ على أهمية هذا العمل وقيمته العلمية إلا إذا كان هذا على سبيل التواضع ولكنه تواضع في غير محله.
الملحوظة الثانية: أن المقدمة كذلك تضمنت ما ليس منها، وخلت من بعض ما يجب أن يكون فيها: تضمنت تعريف القواعد المقاصدية والأهمية والفوائد والوظائف التي تؤديها، وهذا ينبغي أن يكون في صلب الكتاب بعد المقدمة مباشرةً، كما خلت من استعراض جهود السابقين، صحيح أنه ذكر في المقدمة أسماء العلماء الذين أسهموا في هذا العلم وبعض المؤلفات، لكن كان ينبغي أن تظهر وجوه هذا التأليف وما أضافه هذا المؤلَّف إلى الجهود السابقة من قيمة ومن إضافات مقدرة على هذا العمل، كما هي العادة في الدراسات العلمية، وبخاصة أن العمل الأكبر قبل هذا الكتاب كان “معلمة القواعد الفقهية والأصولية” وقد كان د. الريسوني المشرف العلمي على هذا المشروع.
الملحوظة الثالثة: أنه قد يكون من المناسب أن يُذيَّل كلُّ بابٍ من الأبواب التي أورد الكتاب قواعدها المقاصدية بالفوائد التي تعود على هذا المجال وهذه الحزمة من خلال هذه القواعد: ما الذي تفيده هذه الحزمة من القواعد في مجالها؟ سواء في السياسة الشرعية أم في الأخلاق والتربية إلى آخره، وما الإشكالات المعاصرة التي تقدم لها هذه الحزمة حلولاً بشكلٍ إجمالي على طريقة المقاصد الخاصة.
الملحوظة الرابعة: كان ينبغي أن تضاف بعض الأبواب لهذا الكتاب، مثل: قواعد لضوابط اعتبار المقاصد، وقواعد لأنواع المقاصد، وقواعد لخصائص المقاصد، وقد بين المؤلف أبواباً كثيرة من العلم وذكر لها قواعد، فكذلك ضوابط الاعتبار تحتاج إلى قواعد، وكذلك الأنواع والخصائص، وإن كانت الأنواع والخصائص بدرجةٍ أقل.
أخيرًا: هذا الكتاب في نظري مع ما كتبه المؤلف من قبل في قواعد المقاصد، ومع مجمل ما كُتب في هذا المبحث المهم والرئيس في علم المقاصد، وعلى رأسه “معلمة القواعد الفقهية والأصولية” يمثل انطلاقة قوية لتأسيس علم جديد داخل علم المقاصد، وهو علم القواعد المقاصدية؛ نظيرًا للقواعد الأصولية، والقواعد الفقهية، وهذا هو الشأن الطبيعي في تكاثر العلوم وتوليدها وتوالدها واستقلالها الذي لا يعني مطلقًا انقطاع الصلة بين العلم المستقل وغيره من العلوم.