هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هشام بن عبدالمطلب بن عبد مناف بن قصي، وأمه أزدية.
ولد بالشام بغزة، وقيل باليمن، سنة خمسين ومائة، وحمل إلى مكة فسكنها، وتردد بالحجاز والعراق وغيرهما، ثم قدم مصر فاستوطنها.
روى عنه أحمد بن حنبل، والحميدي، وأبو الطاهر بن السراج، وحرملة بن يحيى، والبويطي، والمزني..
ابتداء طلبه وحفظه:
قال الشافعي: كنت وأنا في الكتَّاب أسمع المعلم يلقن الصبي فأحفظ ما يقول، ولم يكن عند أمي ما تعطي المعلم، وكنت يتيماً، وكان المعلم يرضى مني بأن أخلفه إذا قام، ولقد كانوا يكتبون، وقبل أن يفرغ المعلم من الإملاء حفظت جميع ذلك.
وفي رواية: فقال لي ذات يوم: ما يحل لي أن آخذ منك شيئاً؛ ثم لما خرجت من الكتَّاب، كنت ألتقط الخزف وكرب النخل وأكتاف الجمال، فأكتب فيها الحديث..
قال: ثم خرجت من مكة فلزمت هذيلاً أتعلم كلامها، فبقيت فيهم سبع عشرة سنة، راحلاً برحلتهم، ونازلاً بنزولهم، فلما رجعت إلى مكة، جعلت أنشد الأشعار، وأذكر الأدب والأخبار وأيام العرب، فمر بي رجل من الزبيريين فقال لي: يا أبا عبدالله، عز عليَّ ألا يكون مع هذه الفصاحة والذكاء فقه، فتكون قد سدت أهل زمانك؛ فقلت: ومن بقي يقصد؟
فقال لي: هذا مالك سيد المسلمين يومئذ؛ فوقع في قلبي، وعمدت إلى الموطأ واستعرته، وحفظته في تسع ليال.
اقتداؤه بمالك واعترافه له:
وقال الشافعي: مالك بن أنس معلمي، وفي رواية أستاذي، ومنه تعلمت العلم، وإذا ذكر العلماء فمالك النجم، وما أحد أمنّ عليَّ من مالك وعنه أخذت العلم.
وقال: إنما أنا غلام من غلمان مالك؛ وقال: جعلت مالكاً حجة فيما بيني وبين الله.
ذكر ثناء العلماء عليه بسعة العلم والفضل:
قال محمد بن عبدالحكم: قال لي أبي: الزم هذا الشيخ (يعني الشافعي)، فما رأيت أبصر منه بأصول العلم، أو قال: بأصول الفقه.
قال محمد: لولا الشافعي ما عرفت ما عرفت، وهو الذي علمني القياس، وكان صاحب سُنة وأثر وفضل وخير، مع لسان فصيح طويل، وعقل رصين صحيح.
وقال فيه ابن عيينة: هذا أفضل فتيان زمانه.. وكان ابن عيينة إذ جاءه شيء من التفسير والفتيا قال: سلوا هذا، يعني الشافعي.
وقال له مسلم بن خالد الزنجي شيخه، وهو شاب ابن خمس عشرة سنة، ويقال: ابن ثماني عشرة سنة: قد آن لك أن تفتي يا أبا عبدالله.
وقال يحيى بن سعيد القطان: إني لأدعو للشافعي في صلاتي لما أظهر من القول بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أحمد بن حنبل: ما أحد يحمل محبرة من أصحاب الحديث إلا وللشافعي عليه منة.
وقال: كنا نلعن أصحاب الرأي ويلعوننا حتى جاء الشافعي فمزج بيننا.
وقال: ما عرفت ناسخ الحديث من منسوخه حتى جالسته.
وقال ابن حنبل: كان الشافعي أفقه الناس في كتاب الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان قليل الطلب للحديث.
وقال أحمد: كان الشافعي كالشمس للدنيا، والعافية للناس، فانظر هل لهذين من عوض؟
وقال إسحاق: الشافعي إمام.
وقال أبو عبيد: ما رأيت رجلاً قط أكمل من الشافعي.
وقال هارون: ما رأيت مثله، لو ناظر على أن هذا العمود الذي من حجارة أنه من خشب، لأثبت ذلك لقدرته على المناظرة.
وقال هلال بن العلا: الشافعي فتح أقفال العلم.
قال النسائي: وهو أحد العلماء، ثقة مأمون.
قال البويطي: إنما كان الشافعي يتبع أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر جوده وبقية أخباره وفضائله:
انصرف الشافعي من اليمن إلى مكة، ومعه عشرة آلاف دينار، فضرب خباء خارج مكة، وجاءه الناس، فما برح حتى فرقها كلها، فلما دخل مكة استسلف ما أنفق.
قال الربيع: ما أرى أتى عليه يوم إلا تصدق فيه، وكان في شهر رمضان كثير الصدقة بالثياب والدراهم، ويطعم الفقراء، وأصلح رجل زره فأعطاه ديناراً، واعتذر إليه، وناوله آخر سوطه، فأعطاه صرة دنانير، وقال: لم يحضرني غيرها.
قال الربيع: كان الشافعي يختم في كل ليلة ختمة، فإذا كان رمضان ختم في كل ليلة منه ختمة، وفي كل يوم ختمة.
وقال: وأفتى وهو ابن خمس عشرة سنة، وكان يحيي الليل حتى مات.
جمل من حكمه وآدابه:
قال الشافعي: من ولي القضاء ولم يفتقر فهو سارق، ومن حفظ القرآن نبل قدره، ومن تفقه عظمت قيمته، ومن حفظ الحديث قويت حجته، ومن حفظ العربية والشعر رق طبعه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه.
وقال: أحسن الاحتجاج ما أشرقت معانيه، وأحكمت مبانيه، وابتهجت له قلوب سامعيه.
وكان الشافعي كثيراً ما ينشد:
أهين لهم نفسي لأكرمها بهم ولن يكرم النفس الذي لا يهينها
يريد: لمن يطلب العلم عنده.
وكانت وفاته بمصر يوم الخميس، وقيل ليلة الجمعة، منسلخ رجب سنة أربع ومائتين للهجرة(1).
العبر والفوائد الإيمانية والتربوية:
– اهتمام أهل العلم باللغة العربية؛ إذ هي المنطلق لكل العلوم.
– تحمّل العلماء وإهانة أنفسهم لمن يتعلمون منهم.
– السخاء والجود من صفات العلماء وسلوكهم.
– ثناء العالم على من تعلَّم منه وعلَّمه العلم.
– التزام العالم بخُلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لدليل رسوخه في العلم.
– حرص طالب العلم على الكتابة والتدوين والحفظ بداية طلبه للعلم.
– حرص العالم الرباني على ختم القرآن وتلاوته.
– حكمة العالم في التأليف بين المدارس الشرعية والفكرية المختلفة، وما أحوجنا لمثل هذا السلوك والمسار للعالم.
والحمد لله رب العالمين.
_____________________________________________________
(1) ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، تأليف: القاضي عياض بن موسى بن عياض السبتي المتوفى سنة 544هــ، الجزء الثالث، تحقيق: عبدالقادر الصّحراوي.