اعتدلت جدتي في جلستها؛ أخذت تسرع في تدوير حبات مسبحتها؛ لم يتبق على الإفطار غير ساعة؛ أمسكت بطرف ثوبها الذي حاكته لها أمونة، تلك الخياطة البارعة؛ جلباب أزرق مثل موج البحر تتراقص عليه أشعة الشمس.
تلف حول رقبتها “شالا” أبيض ينتهي طرفاه بحمامة وسبع سنبلات خضر وفي وسطه هلال!
أحسبها تلفعت بعلم عتيق؛ قبلت يديها اليمنى، في الحقيقة ترتاح لهذا الفعل كثيرا؛ بها عظمة وأنفة توارثتها عن أجدادها الذين تحكي أنهم حكموا البلاد فهي من أولاد الناس!
في عجالة سألتها عن ذلك الرجل الحاوي الذي انفلت منه القرد ميمون؛ من أي بلاد الله هو؟
لماذا يا جدتي وجهه أسود مثل قرن الخروب؛ تلمع عيناه وتنهدل شفتاه؛ تخوفني أمي به؛ حتى جارتنا تستعيذ بالله أن يأتي ما في بطنها شبيها به!
قالت لي: جاء من بلاد ما وراء السد؛ من دنقلا أو شندي ربما من وادي حلفا أو من الكنوز!
هم يا ولدي يرطنون بكلام غريب؛ لسانهم حلو لكن كلامهم عجيب!
تنهدت جدتي، أغمضت عينيها وحدثتني بأمور كنت أشتاق إلى معرفتها.
أتساءل: ما الذي يجعلها لا تمل من ذلك الحديث؟
هل تسكن جدتي في مغارة سحرية تحت الأرض ومن ثم تأتيها جنية النهر بتلك الحكايات؟
يبدو هذا معقولا.
تغيب أياما وتأتي وفي جرابها تمر وحمص وفول سوداني وسكر نبات؛ تهبني حفنات من تمر وتوصيني أن أعطي الصغار كل واحد ثلاث حبات تمرة وقطعة سكر نبات وخمس حمصيات؛ تحذرني من الخطأ في العدد؛ لو حدث هذا لشرب الرجل النوبي ماء النيل ولخرجت حيات وثعابين تملأ كل البلاد التي تسكن جنب النهر أو تلك البعيدة عنه تشرب من مائه.
ذلك النوبي يحمل كتابا به صور وأشكال عجيبة: تمساح وقط أبيض؛ نخلة محملة بعراجين البلح، ذئب أغبر؛ يتبع النوبي قرد ذيله طويل؛ تتدلى من رقبته سلسلة طولها سبعة أذرع؛ لم أقسها بل خمنت أنها طويلة حتى تقارب مأذنة الجامع القبلي؛ تهتز خمسة وخميسة ومن الغريب أنها حمراء تكاد تقطر دما.
أخبرتني جدتي أن ذلك النوبي الذي يحمل كتابا ويراقص قردا يعرف سر ما في بطن جارتنا؛ ستلد ولدا بعين واحدة والأخرى مطموسة؛ أنفه أفطس وشفته العليا مشقوقة تشبه شفة الأرنب الذي جاءوا به من بطن النيل!
ذات يوم سرقت تلك الجارة وعاء مملوءا بالتمر؛ نقص ما في خزانة الجدة؛ وهي تمسك بمسبحتها المباركة دعت عليها أن تلد ولدا غريبا؛ لم أكن أدري أن جدتي الخضراء تتصل بأبواب السماء؛ يقال إنها ولدت يوم وقف التمساح على ذيله وسط النهر؛ فتح فكيه وكاد يلتهم ما على أشجار التوت من حمام وما يستظل من حرارة الشمس تحتها من عنزات وبط وإوز؛ ومنذ ذلك اليوم وضفة النهر ذابلة لا زرع عندها ولا ضرع.
بدأت أتوه من جدتي؛ تخيلت القرد يجري مع الأرنب يعتلي ظهره الولد الذي في بطن جارتنا؛ يصعد به النخلة ويطير مع الحمامة تمسك السبع سنبلات؛ تتبعثر حبات القمح فيلتقمها الذئب الأغبر، اعتقدت أن هذا النوبي يسحر للنهر فيخرج ما في جوفه: ياقوت ومرجان وجنيات حمر وزرق عيونهن صفر وشعورهن متهدلات مثل أغصان شجرة الصفصاف عند ضفة النيل قبالة كفرنا حيث يأتي الوافدون من بلاد بعيدة.
تلفتت جدتي يمينا ويسارا جمعت كفيها وتمتمت بدعاء عجيب؛ سرعان ما أقعى القرد ولف ذيله سبع لفات تناثرت الأشكال والصور الغريبة من كتاب النوبي الأسود؛ تكاثرت فراخ الحمام وأخرجت ريشا ذهبيا؛ من بعيد رأيت الأرنب الجبلي يتقافز ويمسك في فمه عودا أخضر؛ الطفل الذي كان في بطن جارتنا يركب غزالة تمرح حول جدتي.