شكل انتصار حركة “حماس” في حرب غزة الأخيرة معضلة كبيرة تواجه أمريكا و”إسرائيل”، ما استدعي إرسال وزير الخارجية بلنكين للمنطقة لوضع ترتيبات غرضها منع “حماس” من حصد نتائج انتصارها وفرض معادلات جديدة.
هدف زيارة بلينكن الرئيس للشرق الأوسط هو إضعاف “حماس”، وتقوية السلطة الفلسطينية وحلفاء أمريكا القدامى، وليس إحياء مفاوضات جديدة للسلام، حسبما أكدت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، في 27 مايو 2021.
لكن تهديد يحيى السنوار، رئيس حركة “حماس”، 26 مايو 2021، “إسرائيل” بـ”حرق اليابس والأخضر” إن لم يتم رفع الحصار عن غزة، بالتزامن مع زيارة بلينكن، وتشديده على أن القطاع “لن يقضي هذا العام ومشكلاته كما هي”، وأن القدس “خط أحمر”، دفع الأمريكيين للتفكير في تهديدات “حماس” ونصح الصهاينة بالتهدئة.
فعقب وقف القتال، سعى الاحتلال لاقتحام “الأقصى” ومحاولة تهجير أسر في القدس، وردت “حماس” بتهديد الاحتلال باستمرار القصف لو ظلت الانتهاكات مستمرة في القدس والمسجد الأقصى لتثبيت معادلة “غزة – القدس”.
كان لافتاً أن وزير الخارجية بلينكن حذر “الإسرائيليين” خلال زيارته إلى القدس من أن عمليات إجلاء العائلات الفلسطينية من القدس الشرقية أو المزيد من الاضطرابات في الحرم القدسي قد تثير “التوتر والصراع والحرب”، بحسب موقع “أكسيوس” الأمريكي.
انتصار “حماس” كان له جانب سياسي مهم آخر، فبسبب إدراك أمريكا ودول المنطقة قوة “حماس” وضعف السلطة الفلسطينية، وضرورة التواصل مع “حماس”، بدأت أطراف أمريكية تشير لضرورة الاتصال بـ”حماس” مباشرة، رغم أن هذا كان يتم عبر مصر.
هل يضطر الأمريكيون للاتصال بـ”حماس” بعد انتصارها لتثبيت الهدنة؟
خطة أمريكية للاتصال بـ”حماس”!
في 2 ديسمبر 2018، نشر مركز أبحاث “الأمن الأمريكي الجديد” Center for a New American Security (CNAS) بمشاركة معهد بروكينغز، دراسة بعنوان “نهج أمريكي جديد لإنهاء أزمة غزة الدائمة” طالبت بأن يكون هناك تواصل مباشر مع حركة “حماس” التي تحكم غزة تمهيداً لحل شامل لقضية فلسطين.
قالت الدراسة: “يجب على الولايات المتحدة الحث على الدمج بين الضفة الغربية وغزة بصورة تدفع قدماً بحل الدولتين وتمنع الفصل المستمر بين المنطقتين، كما عليها تثبيت الاستقرار في غزة، ومعالجة المشكلات الإنسانية، ومنع أي مواجهة بين “إسرائيل” و”حماس”، وعند الحاجة تقصيرها”.
أهمية الدراسة أن أحد كُتابها الثلاثة هو هادي عمرو الذي عينه الرئيس الأمريكي بايدن، في يناير 2021، كنائب مساعد لوزير الخارجية الأمريكي للشؤون الفلسطينية و”الإسرائيلية”، الذي يتولى حالياً المسعى الأمريكي لترتيب تهدئة في التصعيد الحالي بين “إسرائيل” والفلسطينيين.
ربما لهذا كتب المحلل السياسي لصحيفة “هاآرتس” تسفي برئيل يتساءل، يوم 23 مايو 2021: “هل حان دور “حماس” لتلقّي مكالمة هاتفية من البيت الأبيض؟”، ملمحاً لأن هناك بوادر تغير في التفكير الأمريكي نحو حركة “حماس” التي تسيطر على غزة.
توقع برئيل أن يكون لهذه الدراسة مكانة في البرنامج السياسي، وقد يتبناها الرئيس بايدن لمعالجة المواجهة بين “إسرائيل” والفلسطينيين؛ لأن هذا البحث كتبه أربعة من الباحثين من ذوي التجربة في شؤون الشرق الأوسط.
فالدراسة كتبها إيلان غولدنبرغ، وهادي عمر، المقربان من بايدن، وكانا عضوين في الطاقم المصغر لوزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري، عندما أدار المفاوضات بين “إسرائيل” والفلسطينيين في محاولة للتوصل إلى اتفاق.
وشارك فيها كيفن هوجارد الباحث في “مركز سياسات الشرق الأوسط” التابع لمعهد بروكينغز، وناتان ساكس مدير “مركز سياسات الشرق الأوسط” بمعهد بروكينغز.
وعمرو اللبناني الأصل، كان ضمن فريق وزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري لشؤون المفاوضات “الإسرائيلية” الفلسطينية في إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما خلال الفترة ما بين عامي 2013 و2017.
كما عمل باحثاً في كل من معهد بروكينغز و”مركز الأمن الأمريكي الجديد” وتولى منصب مدير معهد بروكينغز الدوحة في قطر، وانصبَّ عمله على السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
هناك إدراك غربي متزايد بأن العالم مقتنع أن “حماس” اليوم هي عنوان الفلسطينيين
وحين أطلق الرئيس السابق ترمب خطته “صفقة القرن” كتب هادي عمرو مع زميله إيلان غولدنبيرغ مقالة في مجلة “السياسة الخارجية” الأمريكية المرموقة يناير 2020 تحت عنوان “نعرف خطط السلام وهذه ليست من بينها”.
انتقد فيها خطة ترمب للسلام التي حملت اسم “صفقة القرن” وقال: “إنها مهزلة ويجب أن ترمى في مزبلة التاريخ سريعاً”.
تنبأ بأنه “لا حظ لها في النجاح لأن أحد طرفيها وهو الجانب الفلسطيني لم يستشر حول مضمونها”، وهو ما حدث لاحقاً في هبة القدس وحرب غزة الرابعة، حيث اختفى الحديث عن “صفقة القرن” وتضرر التطبيع واتفاقات أبراهام.
توجه عمرو المبكر الذي يلمح لضرورة التواصل مع “حماس” التي تحكم غزة، الذي يبدو أن إدارة بايدن تتجه للأخذ به، دفع اللوبي الصهيوني لمهاجمته بعنف.
كتب دانييل غرينفيلد في موقع “جويش نيوز سينديكيت” فبراير 2021 مقالة مطولة اتهم فيها هادي عمرو بتأييد من وصفهم بـ”الجماعات الإرهابية” مثل حركة “حماس” وفتح.
قال: إنه هو الذي يقود جهود إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لإعادة الاتصالات مع السلطة الفلسطينية واستئناف الدعم المالي للسلطة ولوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، (الأونروا).
انتقد غرينفيلد تعيين بايدن، لعمرو ووصفه بأنه دعا مراراً إلى التعامل مع حركة “حماس” وعمل عن كثب مع دولة إرهابية هي أكبر ممول لـ”حماس”، وله تاريخ طويل في العداء لـ”إسرائيل”.
فهل ينتهي الأمر بالفعل بإدارة بايدن لانتهاج ثورة في حل القضية الفلسطينية تقوم علي أنه لتفعيل حل الدولتين لا بد من توحيد الضفة وغزة أولاً ومن ثم ضرورة الاتصال بـ”حماس” التي تحكم غزة؟
وهل تفعيل بايدن دور مصر بعدما رفضه الاتصال بها أربعة أشهر وتغليب لغة المصالح والبراغماتية (نهج الحزب الديمقراطي) على حقوق الإنسان، هو أحد أعمدة هذه السياسة الأمريكية الجديدة لتكون القاهرة وسيط بين الأمريكيين و”حماس”؟
والأهم كيف تتغلب أمريكا على تصنيفها حركة “حماس” منذ عام 2009 ضمن التصنيف الأمريكي للدول والحركات الإرهابية، بزعم أن “حماس” تستخدم العنف، وتعارض مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وتتلقى دعماً من إيران وتتعاون مع جماعة “حزب الله” اللبناني؟
يبدو أن ما يجري حالياً يصب في خانة التواصل الأمريكي مع “حماس”، كما فعلوا مع الإخوان المسلمين في مصر عقب فوزهم في الانتخابات وصولاً لحكمهم مصر عقب ثورة يناير 2011، ولكنها اتصالات بشكل غير مباشر.
كان لافتاً مثلا تأكيد قناة “كان” العبرية الرسمية، في 26 مايو 2021، أن مصر دعت كلاً من “إسرائيل” وحركة “حماس” والسلطة الفلسطينية إلى محادثات في القاهرة حول محاور، بينها ترسيخ وقف إطلاق النار الراهن، وتحسين الأوضاع بقطاع غزة، وبتواصل مع أمريكا.
صحيح أن المباحثات ستركز على التوصل إلى اتفاق (هدنة) طويل لوقف إطلاق النار، وخطة لإعادة إعمار غزة، وإعادة أسرى ومفقودين “إسرائيليين” لدى “حماس”، لكن هذه محاولة أولية لتثبيت الهدنة ربما تعقبها اتصالات أمريكية غير مباشرة مع “حماس” ضمن محاولات وضع حل ثابت لحل الدولتين.
وقد ظهرت بالفعل مؤشرات على تغير في مواقف بعض الدول الغربية تجاه الحوار مع حركة “حماس”، وذلك بعد تصريح المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بأن الوقت قد حان للبدء في حوار “غير مباشر” مع حركة “حماس”.
فهناك إدراك غربي متزايد بأن العالم مقتنع أن “حماس” اليوم، وليس السلطة، هي عنوان الفلسطينيين، ولكنهم يدسون رؤوسهم في التراب كالنعام ويتحدثون عن تقوية السلطة المتعاونة مع الاحتلال، التي كشفت مواجهات القدس والضفة وغزة الأخيرة أن “حماس” هي المحرك وهي صاحبة القرار التي يجب التفاوض معها.
لهذا يتوقع مراقبون عرب وأجانب أن تسقط جدران المقاطعة الغربية لـ”حماس” ويبدأ حوار جدي معها.
فما زالت أمريكا تضع “حماس” على قائمة المنظمات الإرهابية، وكذلك يفعل الاتحاد الأوروبي، ولكن واقع الأمر يثبت أنه يتم التعامل معها واقعياً من جانب أمريكا والاتحاد الأوروبي.
الاتحاد الأوربي يشترط للتعامل المباشر مع حركة “حماس” موافقتها على الاعتراف بـ”إسرائيل” واتفاقيات أوسلو لكنه يعدها جزءاً من الحل، ولو كان يعتبرها حركة إرهابية لرفض التعامل معها أساساً.
أمريكا أيضاً ترفض التعامل المباشر مع حركة “حماس”، ولكنها تعاملت بشكل غير مباشر ومن خلال مصر وقطر وتركيا ودول أخرى معها، ولكنها تصنفها حركة إرهابية لأنها ترفع السلاح من أجل تحرير فلسطين، وإن كانت تتواصل معها للوصول لحل عبر قطر ومصر وتركيا.