لم يكن وحده، بل كان معه أمة من أفراد التنظيمات بعد هزيمتهم الساحقة على يد السلطة الباطشة في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي.. كانوا يتحركون بمنطق الثأر الذي يجري في الصعيد، للانتقام ممن عذبوهم في السجون وقتلوا منهم أعداداً غير قليلة، وغيبوهم لمدد طويلة بين الأسوار العالية.
في السبعينيات كتبت في “الاعتصام” وكانت واسعة الانتشار مع إمكاناتها المحدودة، وحذّرت من العنف الذي لا يثمر إلا عنفاً أشد، أشرت في حينه إلى أن العنف مدمر، وخاصة إذا كان الصراع مع طرف لا يعبأ بالقانون ولا القيم ولا العدالة، ولا يتورع عن سحق الشعب كله لو تطلب الأمر ذلك، بينما يتردّد أمام العدو الخارجي ألف مرة، ولديه سبب مقنع في كل الأحوال بأن أمن البلاد مقدم على كل اعتبار.
كانت عمليات الجماعات التي تحدث في بعض الأماكن (الأقصر مثلاً) لا تشوه سمعة النظام، بل كانت تشوه الإسلام والمسلمين، وتكسب السلطة الباطشة تعاطفاً محلياً ودولياً غير محدود، وقد حصدت الجماعات خسائر باهظة تمثلت في قتل أفرادها بالجبال والبيوت والسجون، فضلاً عن المطاردات الوحشية التي تتعدى المطلوبين إلى أسرهم وأقاربهم، وتنتهي عادة نهاية مأساوية.. استطاع النظام من خلال حملة دعاية منظمة ودائبة أن يجرّم الجماعات، ويضعها جميعاً في ملف الإرهاب دون تمييز بين مسالم ومنتقم، وأن يجنّد العالم ضدها، وقضى على مسوغات عنفها ضده! وتمكن بعض العلماء من خلال الندوات التي كان يذيعها التلفزيون تحت مسمى المراجعات، أن يقنع الأكثرية الساحقة من أفراد الجماعات بالاعتراف بالخطأ، والعدول عن منهج الثأر الذي صاغوه في إطار تكفير الحاكم والنظام.
تجربة التعذيب
المفارقة أن الجماعة الأكبر وهي الإخوان رفضت منهج الثأر مع أنها أكثر من أصيب بالجراح وتعرض للأذى، وأذكر أني سألت الأستاذ عبدالمنعم سليم، مدير مجلة “الدعوة”، وكانت ملامحه لا تتحرك نحو الابتسام إلا نادراً، ربما بسبب ما لحقه من معاناة: لماذا لا تكتب عن تجربة التعذيب في السجون؟ فكان فحوى جوابه: إنه يحتسب ما لقيه عند الله، ويحب ألا ينقص أجره! نفرٌ قليلٌ من الإسلاميين سجلوا محنة التعذيب والأذى أبرزهم الروائي نجيب الكيلاني، والصحفي جابر رزق، رحمهما الله.
وفي المقابل، فإن الشيوعيين وأمثالهم سجلوا كل شاردة وواردة فيما جرى لهم من تعذيب ومعاناة في كتب نشرتها السلطة بأموال المسلمين، بعد أن سلمتهم صدارة المشهد الثقافي قبل ستين عاماً، ومثّل ما كتبوه تراثاً ضخماً من الكتب، استطاعوا من خلاله المتاجرة بالفترات التي قضوها داخل المعتقلات والسجون، واستثمروه استثماراً جيداً في صعودهم إلى المناصب الرفيعة بمؤسسات الدولة المختلفة، وأوهموا الناس أنهم وحدهم من ناضل وكافح وتعذّب!
لحية كثيفة
الإسلاميون التائبون، الذين غيّرتهم المراجعات، ضحى كثير منهم بالإسلام وأسقطوه منهجاً وتطبيقاً، مع أن لبعضهم لحية كثيفة وزبيبة تدل على كثرة الصلاة، وصارت مهمة بعضهم إرضاء السلطة بأي وسيلة، بعد أن ترك مهنته الأصلية، وقد تكون على مستوى عال من الاحترام واتجه إلى الكتابة، ليمزّق من كانوا في خندقه إلى أشلاء، ويلصق بهم التهم التي ترددها أطقم الردح والمدح في أجهزة الدعاية المملوكة للسلطة، وحاول بعضهم أن يتفوق على الشيوعيين وأشباههم في هذا المجال، ولكنهم ما زالوا في المؤخرة!
كتب أحدهم مقالاً بعنوان “أزمة الإسلاميين المستعصية”، وأرجعها ببساطة شديدة إلى عدم التفريق بين الداعية والفقيه، والواعظ والمفتي، والداعية والسياسي، والأديب والفقيه، حيث يترك الشباب الفقيه والمفتي في المسائل الخطيرة ليتلقى من الواعظ والداعية فتواه وكلماته وأحاديثه في أخطر مسائل الدماء والحروب وتكفير الحكام والعوام أو استباحة دماء الجيوش الوطنية أو الشرطة المحلية أو الخروج المسلح على الدولة وأجهزتها السيادية.
أزمة مستعصية!
وهذا تبسيط مخل لأزمة الإسلاميين المستعصية كما يسميها.. لماذا؟
أولاً: لأن الأزمة أزمة وطن، وأزمة أمة، وليست قاصرة على الإسلاميين وحدهم، فلو كانت الأوطان بخير، وتحيا في تفاهم وتناغم وتحاور وتشاور، ما كانت هناك أزمة مستعصية للإسلاميين أو غيرهم.
الأوطان التي تعيش وفق منهج الحرية والعدل والكرامة لا توجد فيها أزمات مستعصية، وتحل مشكلاتها عبر التفاهم الحر الذي تحدده قواعد وأسس متفق عليها في دستور حقيقي وقوانين طبيعية.
هل الإسلاميون نقيض للمجتمعات؟ كلا.. هم جزء من تشكيلها وحين يعيشون مثل غيرهم من العباد في إطار الحرية والعدل والكرامة، فلا أزمة مستعصية ولا أزمة سهلة؛ (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (الفتح: 29).
محاصرة الإسلام
ثانياً: إن عدم التفريق بين الداعية والفقيه، والواعظ والمفتي، والداعية والسياسي، والأديب والفقيه، لا يدفع الناس إلى التكفير والعنف والإرهاب، ولكن الذي يدفعهم إلى ذلك هو سوء التعليم، ومحاصرة التعليم الإسلامي، وتشويهه، وتفريغه من محتواه.. واعتماد الناس على واعظ أو داعية أو بعض المشاهير ممن يسمونهم فنانين أو سياسيين لا يلغي مسؤولية السلطة حين شطبت تعليم الدين عملياً من مدارس التعليم العام وجعلته مادة لا تضاف إلى المجموع واستغنت عن امتحانها الصوري إبان أزمة كورونا، وحين جعلت طالب الأزهر من أقل مستويات الطلاب، فلم يعد الطالب الذي كان في عام 1961م قبل قانون تطوير الأزهر.. إنه لا يحفظ القرآن، ولا يدرس العلوم الشرعية واللغوية دراسة عميقة، ماذا ينتظر منه؟ نحن لا ندين الدعاة أو الوعاظ الذين جاؤوا من خارج الأزهر بدافع الإخلاص والرغبة في إصلاح المجتمع، ولكن ندين محاولات استئصال الإسلام تحت مسميات مختلفة (تجديد، تطوير، تغيير، تحديث..)، هؤلاء الدعاة أو الوعاظ لم نسمع منهم تكفيراً ولا دعوة إلى تكفير، ومن حقهم أو حق بعضهم أن ينتقد الفساد والأخطاء في المجتمع، ثم إن الفقيه أو المفتي ليس محصناً ضد الأخطاء والخطايا، لقد وجدنا فقهاء السلطة وعلماء الشرطة يدعون إلى القتل وليس التكفير فحسب، ويقول أحدهم على الملأ وعلى شاشة التلفزة: “طوبى لمن قتلهم وقتلوه!”، وجعل أحدهم من وزيرين نافذين “موسى، وهارون”، ولا يكف أحدهم عن تكفير من يعارضون السلطة، ويصفهم بالخوارج، ويصادق على إعدامهم، مع أنهم لم يكفروا بالله، ولم يرتكبوا جرائم ضد الناس، ولم يقيموا مذابح لخصومهم! العجيب أن أحداً لم يسمع لهم كلمة واحدة ضد “النخانيخ” الذين يستخدمون السلاح والذخائر والسنج والأسلحة البيضاء ويثيرون الرعب والخوف ضد من يعترضهم، وهم موجودون في العديد من الأحياء الشعبية ويجثمون على أنفاس الناس في الذهاب وفي الإياب.
وهناك من المسئولين المعممين من يبني وجوده في المسؤولية على تكفير قطاعات واسعة من المجتمع، ويخلط السياسة بالفقه خلطاً فاحشاً وفاضحاً، وللأسف لا يراهم الإسلامي التائب المسكين ولا يسمع بهم!
صندوق الاقتراع
ثالثاً: يجمّل الإسلامي التائب منع داعية مشهور من الترشح لرئاسة الجمهورية عقب الثورة، ويرى أن ذلك المنع يمثل تصرفاً وجيهاً وواجباً، لأن هذا الداعية الشهير كان يحظى بشعبية واسعة، وكان يمكن أن يفوز بالمنصب!
ونحن نسأل الإسلامي التائب: أليست الديمقراطية أو الشورى تعني الاحتكام إلى صندوق الاقتراع، وهو صندوق التعبير الحر وإبداء الرأي من خلاله فيما ينبغي أن يكون؟ ويقبل الناس نتائج الاقتراع ولو كانت مخالفة لمزاجهم ورغبتهم، لماذا نحرم الناس من حق الترشح والاقتراع ما لم تكن هناك أسباب حقيقية للمنع؟
إن هذا الداعية لم يكفّر أحداً، ولم يدعُ إلى قتال الدولة أو محاربة جيشها وشرطتها، ولم يفعل ما يستوجب المؤاخذة القانونية، فلماذا نحرمه من فرصة الترشح ونرى حرمانه عملاً صائباً وجميلاً؟
من المؤكد أن عيون الإسلامي التائب كانت مغمضة وهو يرى منع مرشحين آخرين لم يكونوا دعاة أو خطباء أو أدباء!
الأدب والفقيه
رابعاً: ولعل هذا بيت القصيد، تجريم الكاتب والمفكر والشهيد بإذن الله سيد قطب، فالإسلامي التائب يرى أن الشباب قد يخلطون بين الأديب والفقيه، فيأخذون عن الأديب كلماته الرنانة وعباراته التي تدغدغ العواطف، وهذا ما حدث- كما يزعم- مع كل من تأثروا بالأستاذ سيد قطب فأنزلوا المعاني الأدبية العامة وكلماته الفضفاضة التي تحمل عشرات الأوجه منزلة المحكم من القرآن أو الثابت من السُّنة أو المجمع عليه من الدين دون أن يفرقوا بينه كأديب وبين المفتي والفقيه الذي يزن كلماته بميزان الذهب!
وهذا كلام غريب وعجيب، فسيد قطب ابن مدرسة يعلم الناس جميعاً أنها تخرّج متخصصين في الشريعة واللغة، ويسمى الليسانس الذي تمنحه لخريجيها: العلوم الإسلامية واللغة العربية، وأول مادة يدرسها طلاب دار العلوم هي الفقه الذي يتناول العبادات والمعاملات وما يسمى الآن بالأحوال الشخصية، فكيف لا يكون سيد قطب فقيهاً؟ وكيف ننزع منه هذه الصفة بكل بساطة بينما الإسلامي التائب كان متخصصاً في مجال علمي لا علاقة له بالفقه ولا الدعوة ولا التاريخ؟
الجمال والجلال
إن سيد قطب كان فقيهاً وأديباً يكتب الشعر والرواية، وبالتأكيد فإن معلوماته الفقهية والشرعية أكثر وأعمق من معلومات حضرة الإسلامي التائب، وقد فسر القرآن الكريم بأسلوب أدبي غير مسبوق، وهو أسلوب يجمع الدقة والجمال والجلال، قد يختلف بعض الناس في بعض تأويلاته، وهذا قائم في معظم التفاسير التي عرفتها الأمة على مدى التاريخ، ولكن أن نشطب تفسيراً من أفضل التفاسير المعاصرة لسبب سياسي متغير، ونشيطن صاحبه تقرباً إلى بعض الجهات فهذا هو الانحراف الذي لا يقبله الله.
إن من ضحى بحياته دفاعاً عن الإسلام في مواجهة سلطة باطشة لا يستحق الإساءة من التائب الذي يزعم أنه يحب أن يذكر الناس بخير! فهذا هو الأزمة المستعصية بحق.
خامساً: من المؤكد أن المقارنة بين الثورة والعقل، أو بين الثائر والمصلح ليست واردة في مجال استشهاد الإسلامي التائب وهو يعالج أزمة الإسلاميين المستعصية كما يسميها! فالثورة لم تكن قاصرة على الإسلاميين وحدهم، ولكن جموع الشعب المصري خرجت في يناير 2011م لتعبر عن غضبها من السلطة المزمنة الباطشة التي رسخت لواقع متخلف وفاسد وبغيض، والسؤال هو: كيف نطرح في جو الثورة المقارنة بين الثائر المهتاج والمصلح الحكيم؟ لأن المصلح الحكيم لا وجود له لأنه لم ينطق بكلمة في وجه الطغيان، ولم يقل كلمة خير تجمع ولا تفرق وتجاربه العديدة التي يفاخر بها لم تجد نفعاً حين قتل “سيد بلال” تحت التعذيب و”خالد سعيد” الذي قتلوه وزعموا أنه ابتلع لفافة بانجو، كان ينبغي على الإسلامي التائب أن يتساءل: لماذا يثور الناس ويغامرون بتقديم أنفسهم هدفاً للرصاص الحي وقنابل الغاز الخانق واصطياد القناصة والخطف إلى الأقبية المظلمة؟! إن الناس لم يثوروا من أجل هدم الكون ثم إعادة بنائه على نمط يتخيلونه في عقولهم، إنهم يسعون من أجل الحرية الكرامة والأمن قبل لقمة العيش، أما المصلحون الحكماء فقد تجاهلوا كل ذلك، وراحوا ينقرون الدفوف لآلهتهم من المستبدين والطغاة!
مصالح الناس
سادساً: إن صلاحية شخص ما لا تحددها وظيفته، وإنما يحددها فكره وقدراته ومواهبه على تحقيق مصالح الناس وطموحاتهم، وكم من موظفين يفترض أن يقوموا بخدمة الناس وتحقيق مصالح المجتمع في الداخل والخارج، ولكنهم فاشلون، مع أنهم دارسون ويفترض فيهم الخبرة والتجربة، ولكن إزاحة من يختارهم الناس قسراً لصالح جهات معينة أمر غير صائب وغير سديد، والسياسة كما عرفها ابن سينا “علم تدبير المنزل” لا تتأتى إلا بخوض معتركها مع تجاوب الناس وتفاعلهم.. وهناك كثير من الدعاة والوعاظ في بلادنا والعالم من ملل مختلفة يحبهم الناس ويرون فيهم شخصيات مثالية يتبعونهم ويؤمنون بأفكارهم ورؤاهم، ودعاة المسيحية الصهيونية ووعاظها في الولايات المتحدة مثلاً استطاعوا أن يجندوا الشعب ليختار دونالد ترمب المهتاج دائماً، بدلاً من هيلاري كلينتون التي تمثل العقل والتجربة والحكمة، ثم استطاع الطرف الآخر أن يغير المعادلة من خلال الشارع، لكن الفارق بيننا وبينهم هو “النظام” حيث يقيم المجتمع وجوده على أسس راسخة، من الحرية والاختيار الذي يسمى الديمقراطية، وهي تجدد شخص الحاكم كل أربع سنوات أو تبقيه سنوات مثلها، إنها تصحح وجود المجتمع أولاً بأول، لكن توطين الاستبداد وتأبيده، يصيب الناس في شرقنا الضائع بنكبة كبرى!
شيخ الأزهر
إن القضية الآن ليست تأثر الشباب بما يقوله أديب أو واعظ أو داعية، ولكنها الأزمة المستعصية في حصول المسلمين على حريتهم وكرامتهم وحقهم في التعبير والاختيار.. أليس مؤلماً للروح والنفس والوجدان والعقل أن يحاول شيخ الأزهر أن يرد على بعض المنحرفين فكرياً فلا يستطيع؟ لقد أعلن هذا بنفسه على الملأ، وأذكر أن الشيخ عبدالحليم محمود، يرحمه الله، يوم كان شيخاً للأزهر حاول نشر بيان يوضح موقف الأزهر من مسألة الكتب الدينية الموحدة للمسلمين وغيرهم في المدارس، فلم يجد جريدة حكومية أو حزبية تقبل نشر البيان، ونشرته “الاعتصام”، ونزل الرجل من مكتبه ليشتري مائتي نسخة من جيبه الخاص، وراح يوزعها على زواره ومن يسألونه عن رأي الأزهر في الكتاب الموحد! كنت أتمنى من الإسلامي التائب أن ينحاز إلى الإسلام وليس الاستبداد، ويعالج بحكمته وخبرته وتجربته ما يطرحه بعض العلمانيين في قنوات عامة ودولية، وخاصة ما يقولونه عن الإسلام وتشويههم للدين الحنيف بدءاً من الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة وقادة الفتح، حتى البخاري، ومسلم، وكتب التاريخ وأحداثه التي تخص المسلمين.