الإيمان جندي من جنود العقل، لأنّ العقل هو الذي يغرس الإيمان في كيان صاحبه، ونقطة البداية عند المسلم دائمًا تنطلق من قلبه فتنعكس على حياته، وتقوم هذه الانطلاقة على دعائم اعتقاده باليقينيات والغيبيات التي تمتزج داخل عقله وقلبه وروحه، وللإيمانِ الراسخ فوائد وثمرات عاجلة وآجلة في القلبِ والبدنِ وصناعة الحياةِ الطيّبةِ في الدنيا والفوز بالجنة في الآخرة.
ولشجرة الإيمانِ المفعم بالعبودية ثمار لا تحصى وفوائد لا تستقصى إذا ثبتتْ وقويتْ أصولُها، وتفرّعتْ فروعُها، وزهت أغصانُها، وأينعتْ أفنانُها، عادت على صاحِبها وعلى المجتمع بل وعلى الدنيا بأسرها، بكل خيرٍ عاجلٍ أو آجلٍ.
والإيمان رباط متين بين العبد وربه شرطه امتثال العبودية الكاملة والقيام بأمانة واجب الاستخلاف على النحو المطلوب في الأرض، وفي هذا يقول ابن خلدون: «الهدف من التوحيد ليس مجرد تحقيق الإيمان فقط، فذلك بين العبد وربه، ولكن كمال التوحيد في تحول الإيمان إلى واقع في السلوك التطبيقي للعبد، وبالمقابل تهدف العبادات إلى تحقيق استسلام العبد وانقياده لخالقه، حتى يصفو قلبه من أي أمر يصرفه عن الله تعالى، وبهذا يصبح المرء مسلماً حقاً، ويكون ربانياً بصدق».
وللإيمان دور في الفعل الحضاري الذي يحقق للبشرية العدالة المفقودة والسعادة المنشودة ويقضى على الاختلالات التي يشهدها النظام الدولي المهترئ، ومنها:
– تحرير العباد من التخبط الفكري، والفوضى العقائدية، والعبودية للمال وتقديس السلطة؛ حيث يخرج الإيمان بالله العبد من ظلمات الشرك والجهل والخرافة والدجل إلى نور الهداية والتحرر من هذه القيود والأغلال الأرضية، وإلى آفاق العلم، والتوحيد الذي يكشف الحقائق، ويُبَصِّر بالصواب، ومن ينظر في تاريخ الأمم السابقة سيعجب من ذلك الضلال الذي كبل حياة البشر؛ حيث عبدوا الأشجار، والأوثان، والشموس، والأقمار، بل إن البعض ألَّه البشر، والحيوانات من دون الله عز وجل.
– تصحيح العلاقة بين الحاكم والمحكوم، حيث يغرس الإيمانُ في النفس أن الأرزاق، والآجال بيد الله عز وجل، وأن العباد مربوبون محكومون، أمرهم بيد خالقهم، وليس بيد الحكام، فما دام العبد متوكلًا على الله عز وجل معتمدًا عليه، فإنه لا يَرهب الباطل، ولا يخشى الموت، ويقول كلمة الحق ويصدع بها ويواجه الظلم والطغيان بنفسٍ غير هيّابة، وهذا هو السرُّ في وقوف أهل الصلاح من هذه الأمة في وجه الظلم والظالمين.
– الإيمان يدك معاقل منظومة الفساد وينمي نهج الاستقامة والصلاح، فالإيمان يصنع نفوسًا مؤمنة تراقب الله وتخشاه، وتعلم أنه عليها رقيب، وتعمل بما أمر الله عز وجل وتنتهي عنه نهيه، فلا شك أن معتقد هذه النفوس المؤمنة سيأبى أن يفسد في الأرض، فالنفوس التي تعتقد أن الله مطلع عليها، لا شك أنها ستتلمس مواطن أقدامها في سلوكها في كل مكان، فالإيمان يقضي على منابت الفساد الذي انتشر في الأرض فأهلك الحرث والنسل وقضى على مقدرات البلاد والعباد.
– الإيمان ينبذ الفرقة ويمنع الاحتراب؛ فعندما يتغلغل الإيمان في نفوس المؤمنين يربطها برباط الوحدة والاتحاد (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال: 36)، فتأتلف منهم القلوب، وتتفق منهم الأعمال، وتتضافر جهودهم على التعاون والتكامل، وكلما استمسكوا بهذا الدين ازدادوا اتحاداً؛ لأن ربهم واحد، ودينهم واحد، وقبلتهم واحدة، وَمَنْ أُرْسِلَ إليهم رسولُ الله وهو واحد صلى الله عليه وسلم، فما نشهده اليوم من اختلافات ونزاعات بين دولنا، واستقطابات حادة ومعسكرات وتحالفات غير متجانسة وتطبيع وموالاة لليهود هي ثمرة طبيعية لضعف الإيمان، لأن العبد إذا آمن بربه ومولاه أدى ذلك إلى أن يوالي كل من آمن بالله عز وجل على الأمر الذي آمنوا به، وكل ما جاء في دين الله عز وجل يدعو إلى هذه الوحدة، وإلى هذا الاتفاق وهذه الموالاة لأولياء الله والمعاداة لأعداء الله، وقد أمرنا الله عز وجل بأن نعتصم بحبله، ونهانا عن أن نتفرق، أو نختلف، أو أن يكون الأمر بيننا شيعًا وأحزابًا، قال جل ذكره: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً) (آل عمران: 103).
– الإيمان يحقق لأصحابه الرضا النفسي، والاطمئنان القلبي، ويقضى على هواجس القلق والاكتئاب وبواعث الانتحار والانسحاب والأمراض النفسية التي ابتلي بها الكثير من الناس في المجتمعات المعاصرة، فالنفوس البشرية دائمة الاضطراب تزعجها الشدة والبلاء، وتبطرها النعمة والرخاء، وليس مثل الإيمان بالله الواحد الأحد مطمئنًا للنفوس، وجالبًا للسعادة والهناء، قال الله تعالى: (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28)؛ ولذلك نحن نسمع كثيرًا عن هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله عز وجل كيف أن حياتهم خاوية بلا هدف وبلا غاية وبلا سكينة رغم أنها حازت الرفاه، وأنهم كثيرًا ما ينهون حياتهم على نحو مفجع بالقتل أو الانتحار؛ لأنهم لا يشعرون بالطمأنينة ولا راحة البال والسعادة؛ لأنهم لم يتذوقوا حلاوة الإيمان بالله عز وجل، وهكذا يكون الأثر الحضاري للإيمان باعثاً على الأمن والسلم النفسي والمجتمعي.