أخيراً انتهى من رواية رضوى عاشور” ثلاثية غرناطة”، مثل أبو عبدالله الصغير أمامه؛ حين مر بهذا المكان تذكر كل هذه الأحداث.. الباب ما يزال موصدا؛ تقف على جانبي السور خيول وجنود يرقبون كل شيء.
أصوات لا يتبين مكانها لكنها تتوالى في أنين متقطع ثم تتلاشى وتتبعها أخرى فهي تتشابه في عزف تلك المندبة، وقع السياط ينشر الرعب، يتحسس الواقفون أجسادهم فعما قليل ربما يلقى أحدهم نفس المصير؛ لا توجد لائحة اتهام مسبقة حيث يصدر ذلك الجالس فوق الأريكة أمره بأن يشير إلى امرأة أو رجل أو حتى جرو صغير يلاعب حملا بأن يضم كل هؤلاء إلى تلك الجوقة التي تعزف بأناتها تحية الصباح.
يشعر بارتياح لوقع تلك السياط، منظرها وهي تتلوى كالأفاعي في الهواء وحين تترك صداها تشعره بنشوة غريبة.
النسوة وهن ممزقات الثياب وقد تقافزت أثداؤهن كلما أوجعتهن السياط، يحلو له أن يتخيل كم كن فاتنات وهن يمتنعن عن نزواته التي تربض في جسده الذابل.
لا مكان لهؤلاء الحمقى في عالمه، لا يكفون عن الضجيج، يعتاشون على حقول القمح، تعجز الأرغفة أن تملأ بطونهم، عليه أن يتخلص منهم.
لم تعد تفلح معهم تلك السياط، هل يفتح سور مدينته ويلقي بهم في تلك الصحراء؟
تفترس الذئاب الجوعى وتقيم بنات آوى عرسا من جلود البائسين؛ ومن ثم ينشد الرواة أشعارهم في ذكر محاسن المرتفع فوق الأريكة؛ كم هو حاتمي يمنحهم وجبات من زهو يفخرون بها.
لم لا يفتح ثقوب السد ومن ثم يأتي الطوفان ويذهب بهم إلى دار أخرى؟
إنه يسكن في مكان أعلى؛ ترتفع أريكته كلما عزف أحدهم بأنينه، عليه أن يكف عن طيبته؛ دارت في ذهنه كل تلك الأفكار، لكنه لن يجد من يقدمون له تلك الوجبة اليومية من الزهو.
تحيروا فيما يفعلون؟
فعلوا كل ما استطاعوا؛ وهبوه أجسادهم يفعل بها ما يشاء من خطوط ومنحنيات؛ وهبوه أرحام نسائهم يدع متى أراد من نطف فيها، إنه قدرهم الذي استناموا في خدر على وقع صياحه، يختار فلا تخطئ حكمته البراعة.
أوسعوا لسياطه مكانا فسيحا في أجسادهم؛ تتلوى فيه وتتمطى كيفما تشاء.
يا له من عمل صباحي يبذلونه ليرضى الجالس فوق الأريكة التي يزهون بها؛ يتباهون حين يتبادلون الأحاديث في عتمة الليل مع الآخرين في الجهة المقابلة؛ لقد ضرب بينهما بسور لا باب له، يؤدون عملا كل صباح يظنونه يختلف عما يقوم به هؤلاء!
في الجهة المقابلة ينصرف كل واحد إلى وجهته؛ تدار ماكينات الصراف الآلي لكنها لا تجد من يمد يده ليأخذ شيئا؛ تتكدس الخضراوات المغلفة واللحوم الشهية، تتناثر العطور، تتعالى الأصوات مرتبة في نسق تطالب بأشياء غير معقولة؛ أن توهب العصافير أعشاشا مكيفة؛ تبنى لها مسارح وتعد لها حبات البقول في مطاعم المدينة.
عالم تسكنه الرتابة ويتمشى فيه الملل؛ لا طعم لكل تلك الحياة المعالجة آليا؛ اعتادت القطط والجراء أن تقف منتظمة وتتريث حين تعبر شارة المرور؛ يودون لو أنهم قفزوا من أعلى السور أو اندفعوا سيلا حتى يتخلصوا من حالة الملل التي يعانون منها.
تناقلت أخبار إحدى الجهتين إلى الأخرى؛ تظاهرت النسوة في جهة صاحب الأريكة المرتفعة؛ يطالبن بأن يسمح لهن أن يشاركن الأخريات ممن تتدلى أثداؤهن كما الأرانب البرية.. كم هن فاتنات!
يعشن لذة يفتقدنها، رأينهن جانب السور يلتمسن ثقبا كانت أيدي هؤلاء الباحثات عن حبة بقول مما يتساقط من أفواه العصافير تبحث عن شيء ربما يكون بقايا خبز أو حبوب قمح؛ لا تشبع الصغار لبنا، يقهقه ذو الأريكة المرتفعة؛ يتبختر بها فوق أكتافهم كل صباح: تلك نعم كبرى لا تحسنون شكري عليها.
لا أحد ينشغل بما يدور في ذهنه؛ صار لأبي عبد الله الصغير آباء عبد الله الصغير، تعددت الحواجز والأبنية؛ ترى هل يستطيع أن يتناسى كل تلك المرارة التي تقف في حلقه؟
لم تكمل رضوى ثلاثيتها بعد، تحتاج رباعية بل أجزاء متتابعة لتكمل سطور محنة تعزف الجوقة لحنها الأزلي!