من يتحدث عن نهاية “إسرائيل” يمكن أن يواجه في عالمنا العربي نظرات السخرية، وربما الشك في قواه العقلية؛ فكيف يمكن أن تنتهي دولة أصبحت تتفوق على كل دول المنطقة، وتثير الرعب في قلوب حكامها، وتهيمن عليهم، وتتحكم في قراراتهم، وتصورهم للعالم وهم يتلهفون شوقاً للتطبيع معها رغم رفض شعوبهم لأنهم يعلمون أن “إسرائيل” هي التي تمكنهم من البقاء على كراسي الحكم.
لكن هل تفكر “إسرائيل” بالمنطق نفسه؟ ولماذا يدرس المؤرخون “الإسرائيليون” الحملات الصليبية؟ فهل يخافون أن يلقوا مصيرها؟!
د. المسيري: الوجدان الغربي والصهيوني يوحد من البداية بين المشروعين الصليبي والصهيوني
يقول د. عبدالوهاب المسيري: “إن الصهاينة يدركون أنهم يعيشون في نفس الأرض التي أقيمت فيها ممالك الفرنجة، وتحيط بهم خرائب القلاع الصليبية التي تذكرهم بهذه التجربة الاستيطانية التي أخفقت وزالت، ومما يعمق من هاجس النهاية أن الوجدان الغربي والصهيوني يوحد من البداية بين المشروع الصليبي والمشروع الصهيوني ويقرن بينهما..
وبذلك يمكننا أن نقول: إن المشروع الصهيوني هو نفسه المشروع الصليبي بعد أن تمت علمنته وإحلال المادة البشرية اليهودية التي تم تحديثها وتغريبها وعلمنتها محل المادة البشرية المسيحية”.
ويضيف د. المسيري: “لكل هذا يدرس “الإسرائيليون” المقومات البشرية والاقتصادية والعسكرية للكيان الفرنجي، والعلاقة بين هذا الكيان والوطن الأصلي المساند له، وقد وجه الكثير من الباحثين الصهاينة اهتمامهم لدراسة مشكلات الاستيطان والهجرة التي واجهها الكيان الفرنجي، ومحاولة فهم عوامل الإخفاق والفشل التي أودت به”.
لكن الاهتمام بدراسة الحملات الصليبية لم يقتصر على الباحثين والمؤرخين في الجامعات “الإسرائيلية”، حيث خرج إلى دوائر صنع القرار والسياسات العامة، وقدم لنا المسيري بعض الأمثلة على ذلك؛ حيث عقد “إسحق رابين” مقارنة بين ممالك الفرنجة والدولة الصهيونية، توصل من خلالها إلى أن الخطر الأساسي الذي يهدد “إسرائيل” هو تجميد الهجرة، وأن هذا التجميد سيؤدي إلى اضمحلال الدولة بسبب عدم سريان دم جديد فيها.
كما حذر الكاتب “يوري أفنيري”، وهو صحفي وعضو كنيست، من مصير ممالك الفرنجة التي لم يبق منها إلا بعض الخرائب، وعقد مقارنة مستفيضة بين ممالك الفرنجة والدولة الصهيونية، قائلاً: إن “ممالك الفرنجة احتلت رقعة من الأرض أوسع من تلك التي احتلتها الدولة الصهيونية، وإن الفرنجة كانوا قادرين على كل شيء إلا العيش في سلام؛ لأن الحلول الوسط والتعايش السلمي كانا غريبين على التكوين السياسي للحركة، وبعد موت الأجيال الأولى من أعضاء النخبة في الممالك حل محلهم ورثة ضعفاء في وقت ظهر فيه سلسلة من القادة المسلمين العظماء ابتداء من صلاح الدين ذي الشخصية الأسطورية حتى الظاهر بيبرس”.
مؤرخ صهيوني: الانتصارات العسكرية لم تحقق شيئاً لأن المقاومة مستمرة مما يؤدي إلى عقم الانتصار
أما المثقف والمؤرخ “الإسرائيلي” “شلومو رايخ”، فيرى أن “إسرائيل” تركض من نصر إلى نصر حتى تصل إلى نهايتها المحتومة؛ فالانتصارات العسكرية لم تحقق شيئاً؛ لأن المقاومة مستمرة مما يؤدي إلى ما أسماه “عقم الانتصار”.
الحلقة الأخيرة
هناك الكثير من الأدلة التي تبرهن على أن المشروع الصهيوني احتل مكانة مهمة في الفكر الغربي باعتباره الهدف الرئيس للمشروع الإمبريالي الأوروبي الذي بدأ في نهاية القرن الثامن عشر، الذي يشكل امتداداً للحركة الصليبية حتى وإن رفعت شعارات علمانية؛ لذلك يأتي تفسير اهتمام الصهاينة بدراسة تاريخ الحملات الصليبية بأنه نتيجة لشعورهم بالتشابه بين المشروعين الصليبي والصهيوني، وهذا خلق عقدة للصهاينة، وشعوراً بالخوف من أن يلقوا المصير نفسه، ويطلق شاكر مصطفى على هذا الشعور “عقدة الصليبيات”؛ لذلك فإنهم يستخدمون كل قوتهم لمنع ظهور قيادات عظيمة في العالم الإسلامي مثل نور الدين، وصلاح الدين الأيوبي، ويحاولون منع المواجهة في “حطين” أخرى.
إنهم يخافون من تكرار التجربة؛ فقد كانت فُرقة الأمة الإسلامية وتشتتها وتشرذمها أكثر قسوة، ولا يمكن أن يتخيل أحد في ذلك العصر إمكانية توحدها، لكن هذه الأمة تماسكت فجأة وتوحدت، وقام علماؤها بدورهم في تشكيل رأي عام إسلامي قوي، كان من أهم مصادر قوة الأمة والقيادة.
ويورد مصطفى نصاً شديد الأهمية لـ”موشيه ديان” خلال عدوان عام 1967م، يقول فيه: إن الجيش الصهيوني انساح في القوى العربية كالسكين في الزبدة؛ فهل تتحول الزبدة إلى قنبلة تذهب بالسكين وصاحب السكين؟
و”ديان” من أكثر زعماء “إسرائيل” اهتماماً بالتاريخ؛ فهو ليس مجرد عسكري يقود حرباً ويحقق نصراً، لكنه كان مخططاً عسكرياً يدرك أن للقوة حدوداً؛ فهي يمكن أن تدمر المدن وتقتل البشر، وتلحق الهزيمة النفسية بالذين اعتادوا على الحياة في ظل الاستبداد، لكنها مهما بلغت لا يمكن أن تقهر المؤمنين الذين يمتلكون المعرفة ويوظفونها لتحقيق النصر كما حدث في عهد صلاح الدين.
يرى مصطفى أن اهتمام الباحثين الصهيونيين بتاريخ الحملات الصليبية ليس الهدف منه معرفة التاريخ، بل إدراك التاريخ، فهم يهتمون بتاريخ تلك الحملات بوصفه إسقاطاً على المستقبل؛ فزاوية اهتمامهم محصورة في معرفة كيف طُرد الصليبيون من فلسطين، وكيف تم توحيد المسلمين، ويضيف أن “دراستهم للتاريخ الصليبي تقوم على مبدأ أن جذور الحاضر موجودة في الماضي وممدودة للمستقبل”.
“ديان”: جيشنا انساح بالقوى العربية كالسكين في الزبدة.. فهل تتحول الزبدة إلى قنبلة تذهب بالسكين وصاحبها؟
ويقول عبداللطيف زكي أبو هاشم: إن تشريحهم للكيان الصليبي يستهدف استخلاص العبر التي تمكنهم من تجنب ذلك المصير؛ فالموقف اليهودي من الحركة الصليبية نابع من إدراكهم للوظيفة الحضارية للتاريخ كعلم، وإسقاط التاريخ على الواقع المستقبلي.
ويضيف أن “الإسرائيليين” يتحسسون في الصليبيات مصير الغد، وهم يدرسون التراث العربي في هذه الفترة؛ لأنه يقدم مؤشراً على ضرورة التحسب لاحتمالات تكرار ظاهرة الانتصار العربي الساحق على الغزو الأجنبي مستقبلاً؛ لذلك تشكل معركة “حطين” كابوساً يجثم على صدور “الإسرائيليين”.
عتبات النهاية
يروي د. المسيري أن الجنرال الفرنسي “آندريه بوفر”، الذي قاد القوات الفرنسية في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، ذهب لزيارة “إسحق رابين”، في منتصف يونيو 1967م، بعد انتهاء الحرب بعدة أيام، وبينما كانا يحلقان في سماء سيناء والقوات المنتصرة في طريق عودتها إلى “إسرائيل” بعد أن أنجزت مهمتها، وقام الجنرال “بوفر” بتهنئة “رابين” على نصره العسكري، فوجئ به يقول: ولكن ماذا سيتبقى من كل هذا؟! ويعلق المسيري على تلك الرواية بقوله: “في الذروة أدرك الجنرال المنتصر أن النهاية على عتبات الأبواب”.
من دراسة تاريخ الحملات الصليبية والممالك التي أقامتها في فلسطين تدرك “إسرائيل” خطورة غرور القوة، وأن الأمة الإسلامية يمكن في فترة قليلة أن تبني واقعاً جديداً كالذي بنته في عهد صلاح الدين، كما تدرك خطورة الدور الذي يقوم به العلماء، وإمكانية تشكيل رأي عام إسلامي.
الباحثون الصهاينة يدرسون الحروب الصليبية لاكتشاف دور العلماء المسلمين بتشكيل رأي عام يغيِّر الواقع
في ضوء ذلك، يدرس الباحثون الصهاينة تاريخ الحروب الصليبية لاكتشاف دور العلماء المسلمين في تشكيل رأي عام إسلامي يؤدي إلى تغيير الواقع، والعمل بكل الوسائل لتعطيل هذا الدور؛ فـ”إسرائيل” تدرك أنه عندما يرتبط الرأي العام الإسلامي بقيادة تطبق المبادئ والقيم والأخلاقيات الإسلامية كما فعل صلاح الدين؛ فإن واقعاً جديداً قد يتشكل.
أما القوة المادية الصلبة فمن السهل أن يتم بناؤها خلال فترة قليلة من الزمن، فالعقول يمكن أن تستثمر ثروات الأمة في بناء قوة صلبة ترشد استخدامها قوة المبادئ والقيم والأخلاق والإيمان وعدالة الغايات والوسائل ومشروعيتها؛ لذلك يدرس الصهاينة تاريخ الحملات الصليبية في محاولة لاستشراف المستقبل، ونحن أيضاً يجب أن ندرس ذلك التاريخ بعمق، ونتعلم من تجربة صلاح الدين وكيف يمكن استثمار ثروتنا الثقافية والفكرية في بناء الوعي وتشكيل الرأي العام.