منذ اللحظة الأولى للأزمة الأوكرانية الأخيرة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، صاغت تركيا لنفسها موقفاً متمايزاً عن باقي الفرقاء، بحيث تلاقت مع الحلف والولايات المتحدة الأمريكية في رفض التدخل العسكري الروسي، لكن دون استعداء موسكو والدخول معها في صدام.
«لم نعد اليوم في سنوات الحرب الباردة»، جملة يمكن أن تختصر علاقات تركيا المعقدة مع كل من روسيا من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين من جهة أخرى، فلم تعد أنقرة القاعدة المتقدمة لـ«الناتو» في مواجهة التمدد الشيوعي، ولا عادت روسيا -مع كل الإرث التاريخي للصراع- في صدام مباشر معها.
حاولت تركيا منذ بداية حكم حزب العدالة والتنمية في عام 2002م أن توازن قدر الإمكان في علاقاتها الخارجية متبنية ما أسماه مهندس سياستها الخارجية في ذلك الحين «أحمد داود أوغلو» «سياسة خارجية متعددة المحاور»، ولذلك فقد بدأت علاقاتها تتطور مع موسكو منذ عام 2004م، ثم أخذت أبعاداً متقدمة بعد أزمة إسقاط المقاتلة الروسية في سورية عام 2015م، والانقلاب الفاشل في تركيا عام 2016م.
سببان رئيسان يقفان خلف تطور علاقات أنقرة بموسكو وتراجعها مع الكتلة الغربية ولا سيما واشنطن؛ الأول أن روسيا فرضت نفسها بالقوة حين تدخلت عسكرياً في سورية خريف 2015م، فبدأت بحسم الملف السوري من جهة، وباتت على حدود تركيا الجنوبية من جهة أخرى، وهو ما دفع تركيا لمحاولة التفاهم معها بدل الصدام، والثاني توتر علاقات تركيا مع حلفائها الغربيين وتجاهلهم لمصالحها وأمنها في أكثر من محطة وحدث؛ ما أدى لفجوة ثقة بينهما، أضيف إليها لاحقاً خلافات في الرؤى والمواقف في عدد من ملفات السياسة الخارجية.
لذلك، وبمنطق مشابه، لا تستطيع تركيا اليوم أن تصطف بشكل مباشر وكامل مع الولايات المتحدة و«الناتو» في مواجهة روسيا، وتدرك أن واشنطن ستعود لاحقاً للجلوس على الطاولة مع «بوتين» بعد أن يهدأ غبار المعركة بغض النظر عن مداها المنتظر.
رغبة تركيا الرئيسة وشبه الوحيدة منذ اندلاع الأزمة وبدء التوتر هو تجنب التصعيد العسكري ومحاولة حل الأزمة بالطرق السلمية وبالحوار بين الفرقاء، ذلك أن تصعيد الأزمة، ولا سيما عسكرياً بما في ذلك سيناريوهات الحرب والغزو، تحمل لتركيا أضراراً وتعكس عليها تبعات وارتدادات سلبية سياسياً واقتصادياً وأمنياً وإستراتيجياً، فضلاً عن ارتدادات محتملة فيما يتعلق بالعلاقات مع روسيا والملفات الشائكة ذات العلاقات المشتركة.
بشكل مباشر وتلقائي، فإن تصعيد التوتر ووصوله لمرحلة الأزمة، وخصوصاً عسكرياً، سيرفع من أسعار الغاز الطبيعي والقمح وبعض الحبوب الأخرى، ويصعّب من إمكانية الحصول عليها، وهي مواد تعتمد تركيا على روسيا (وبدرجة أقل أوكرانيا) فيها بدرجة ملموسة، وبالنسبة لدولة مثل تركيا تعتمد على استيراد أكثر من %95 من حاجتها من الوقود، وبالعملة الصعبة التي تعاني مؤخراً من شحٍّ فيها، فإن ذلك يعدُّ أمراً ذا بال.
كما أن تصعيد الأوضاع واشتداد التوتر سيكون له، وقد كان، ارتداداته على الاقتصاد العالمي وأسعار سعر الصرف وعمل البورصات ولا سيما في الاقتصادات النامية، وقد شهدت الليرة التركية -ضمن عملات أخرى- تراجعاً نسبياً مع بدء الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية في 24 فبراير الماضي.
أكثر من ذلك، فالتصعيد العسكري بين روسيا وأوكرانيا سيكون له انعكاسات سلبية مباشرة على السياحة في تركيا، التي تعول عليها الحكومة في انتعاش الاقتصاد وإيجاد فرص عمل وتحصيل عملة صعبة مع بداية الصيف، ولا سيما والسياح الروس يحتلون عادة المرتبة الأولى أو الثانية من حيث عدد السياح الأجانب في تركيا.
كما أن اتخاذ تركيا موقفاً في أزمة من هذا النوع يحمل لها تعقيدات هي في غنى عنها، فهي دولة عضو في حلف شمال الأطلسي؛ وبالتالي سيكون عليها التزامات تجاه مواقف الحلف من التصعيد الروسي، لكنها أيضاً على علاقات جيدة بموسكو وتنخرط معها في عدد من الملفات الإقليمية من سورية إلى ليبيا إلى جنوب القوقاز، وبالتالي فآخر ما تريده هو اتخاذ مواقف يُفهم منها استعداء روسيا والوقوف في مواجهتها.
ذلك أن بدايات التوتر قد أعطت لأنقرة مساحات من التواصل مع مختلف الأطراف وفي مقدمتها روسيا وأوكرانيا والعمل الدبلوماسي وطرح المبادرات، بينما سيضعها التصعيد العسكري أمام خيارات أقل وأصعب، وسيكون الموقف الذي ستتخذه والصياغات التي ستعبّر عن هذا الموقف كالمشي في حقل من الألغام.
في العمق، ترفض تركيا الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية، لكنها تدرك أن لا مصلحة لها في الذهاب حتى نهاية الشوط في الوقوف في وجه موسكو، خصوصاً وأنها تتوقع أن يتراجع الموقف الأمريكي لاحقاً لصالح الجلوس على الطاولة مع الروس والتفاهم معهم، وقد يكون على حسابها من زاوية ما.
كما أن التصعيد العسكري سيحمل، ولو نظرياً، احتمالية توسع العمليات العسكرية واشتراك حلف «الناتو» من زاوية ما بدرجة أو بأخرى ولو على سبيل الضغط على روسيا، وحتى دون انخراط «الناتو»، ستكون تركيا أمام استحقاق اتخاذ القرار بخصوص حرية الملاحة في المضائق وخصوصاً للقطع البحرية العسكرية من مختلف الأطراف، وهو أمر شائك جداً، فمنع طرف دون آخر سيكون بمثابة انحياز مباشر في الحرب، ومنع الجميع أيضاً قد يُفهم منه شيء من هذا القبيل، ولا سيما من قبل روسيا، ما يجعل الحسابات دقيقة جداً مرة أخرى.
أخيراً، تحمل أزمة بأبعاد عسكرية كهذه احتمالية تفسير روسيا موقف تركيا على أنه معادٍ لها في الحرب، ما قد يتسبب بارتدادات انتقامية منها في ساحات أخرى في مقدمتها سورية والقوقاز، ولا سيما أن لأنقرة تجارب مماثلة مع موسكو، على شكل تصعيد ساخن في إدلب وسورية عموماً على خلفية التطورات في ليبيا.
بناء على كل ما سبق، فإن الموقف بالنسبة لأنقرة دقيق جداً في هذه الأزمة التي كانت ترجو وتعمل على ألا تتفاقم أكثر ويمكن حلها بالوسائل الدبلوماسية؛ ولذلك أيضاً فقد كان موقف تركيا مركَّباً إلى حد كبير.
مبدئياً، رفضت تركيا اعتراف روسيا باستقلال «جمهوريتي» دونيتسك ولوهانسك عن أوكرانيا، وكذلك رفضت التدخل الروسي العسكري المباشر في الأراضي الأوكرانية، من زاوية احترام سيادة الدول واستقلالها ورفض الاعتداء على دول الجوار.
مصلحياً، دعمت تركيا في موقفها وخطابها أوكرانيا التي تجمعها معها علاقات أكثر من جيدة، وسبق لها أن قدمت لها دعماً مالياً للقطاع الدفاعي، فضلاً عن صفقات الطائرات بدون طيار التركية التي استخدمتها كييف ضد الانفصاليين في إقليم دونباس شرق البلاد، وكذلك في مواجهة القوات الروسية لاحقاً.
إستراتيجياً، توازن تركيا روسيا وتوازيها في عدد من المناطق والقضايا والنزاعات ومن ضمنها عبر أوكرانيا، ولذلك كان الدعم سالف الذكر والعلاقات المتنامية مؤخراً.
وعموماً، فإن الموقف التركي في رفض الاعتراف والتنديد بالغزو يتناغم مع موقف حلف شمال الأطلسي الذي تنتمي له، وهي القوة العسكرية الثانية فيه بعد الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك يتماهى مع مواقف الغالبية العظمى من دول العالم.
بيد أنه من المهم والضروري الإشارة إلى أن هذا تعبير عن «موقف» لا «إجراء» في مواجهة روسيا، ولذلك، يمكن ملاحظة أن مفردات أنقرة في التعبير عن موقفها تختلف بشكل ملحوظ عن مواقف معظم الدول الغربية وخصوصاً الولايات المتحدة، إذ تختفي هنا الصياغات الحادة والاتهامات المباشرة لصالح الدعوات للهدوء والحكمة وتغليب العقل والمصلحة.
وفي هذا السياق، فقد كررت تركيا عرض مبادرتها للوساطة بين روسيا وأوكرانيا، حيث كانت أعلنت قبل الغزو الروسي عن استعدادها لاستضافة قمة بين الرئيسين «بوتين» و«زيلينسكي» على أراضيها، كما أنها لم توقف التواصل مع موسكو بعد التحرك العسكري أسوة ببعض الدول الأخرى، بل استمر التواصل الهاتفي بين «أردوغان» و«بوتين».
أخيراً، يبقى قرار تركيا بخصوص حرية الملاحة في المضائق خاضعاً لعدة تفسيرات محتملة لبعض مواد اتفاقية «مونترو» عام 1936م التي تمنح أنقرة الحق في منع مرور القطع العسكرية خلال الحرب، وقد أعلن «أردوغان» أن بلاده كانت قد بدأت إجراءات معينة بخصوص المضائق قبل بدء التحرك العسكري الروسي، لكن القرار بخصوص المضائق تحديداً أمر شائك جداً، وستكون تركيا في منتهى الحذر بخصوصه لئلا يفهم بطريقة خاطئة ترتب عليها انعكاسات بعينها فيما يتعلق بالعلاقة مع روسيا، فضلاً عن رغبتها العميقة في تجنب فتح النقاش بخصوص الاتفاقية مرة أخرى.>