قد تكون الحرب الروسية الأوكرانية هي الأغرب في تاريخ المسلمين، فعالمنا العربي والإسلامي غير معني بهذه الحرب ولا تدور على أرضه وليس طرفاً فيها، ومع ذلك فهو أحد أكثر المتأثرين بها على المستويين السياسي والاقتصادي.
التأثيرات الاقتصادية للحرب عديدة وفورية، وهي التي جعلت الكثير من المحللين يتحدثون عن خسائر الدول الإسلامية بسببها، خصوصاً على صعيدي الغذاء والطاقة، لكن التداعيات السياسية الأطول أثراً لم يتطرق لها الكثير من المحللين.
يمكن الحديث عن نوعين من التداعيات للحرب الروسية الأوكرانية على العالم العربي والإسلامي؛ الأول: تداعيات فورية بفعل الحرب المستمرة، تتمثل في أنها كشفت هشاشة العالم الإسلامي وهو يقف بين كتلتين تطحنانه وسطهما، وكلتاهما تضغط على العرب والمسلمين للوقوف بجانبها، ويهددان بأدوات الضغط المعتادة مثل الغذاء والسلاح والعقاب السياسي؛ وهو ما يجعل درس الأزمة الأول للمسلمين هو ضرورة الاعتماد على الذات في الغذاء والسلاح.
والثاني: أخطر، وأطول أثراً وتتوقف التداعيات على نتائج هذه الحرب، وهل تخرج روسيا منتصرة أم منكسرة وينتصر عليها الأوكرانيون بصمودهم؟ وهل يفوز الغرب وأمريكا أم يخسرون؟ وما تداعيات فوز وخسارة أحدها أو كليهما أو اتفاقهما في النهاية؟
نهاية الحرب لن تخرج عن واحد من هذه الاحتمالات؛ إما أن تكسب روسيا ومعها رهانها السياسي طويل المدى، وإما أن تخسر، وبالتالي يكسب الغرب برهانه على العقوبات الاقتصادية وحرب الاستنزاف الطويلة، وإما أن تحدث تسوية تحقق مكاسب للمعسكرين وتجنبهما حرباً نووية، أو تنتهي الحرب بخسائر كبيرة للمعسكرين أيضاً وكسرهما؛ ما قد يفيد المسلمين والقوى الصغيرة الناشئة.
هشاشة وعنصرية
الحرب أظهرت الضعف الشديد للعرب الذي وصل إلى سعي طرفيها لتوظيفهم «مرتزقة»
بجانب هشاشة الموقف الإسلامي الذي ظهر في هذه الحرب كقوة ضعيفة غير مؤثرة، باستثناء دور بعض دول الخليج في التمسك بأسعار النفط العالية كمكسب يجعل لها دوراً سياسياً على المسرح الدولي، أظهرت الحرب حالة الضعف الشديد للعرب والمسلمين، وصلت إلى سعي طرفي الحرب لتوظيف المسلمين في حربهما ليقوموا بدور «مرتزقة».
هذا الضعف والهشاشة ظهر أيضاً حين تنافس من يتولون الإفتاء في روسيا وأوكرانيا ودول أخرى مثل الشيشان وسورية للإفتاء بنصرة فريق ضد آخر، وتحليل مشاركة مسلمين مع طرف دون الآخر، ليظهروا التشرذم والانقسام واستغلال الحكومات للمسلمين بدعاوى دينية.
مفتي أوكرانيا «سعيد إسماعيلوف»، المتحدر من عرقية التتار والمولود في مدينة دونيتسك الشرقية بالقرم، لم يكتف بتشجيع الأوكرانيين على القتال والدفاع عن بلادهم، بل خلع عمامته وزيه الديني وارتدى ملابس عسكرية، وأفتى بحرمة مشاركة السوريين المرتزقة في الحرب مع روسيا.
بالمقابل، وصف رئيس مجلس الإفتاء الروسي «راويل عين الدين» الغزو الروسي لأوكرانيا بأنه «يستند إلى أحكام القرآن الكريم»، وبرر استخدام المرتزقة قائلاً: إن «الجنود (يقصد السوريين) من الديانات الأخرى الذين يدافعون عن روسيا سيكافئهم الله»!
هذه الهشاشة للعالم الإسلامي ظهرت أيضاً في عنصرية الغرب تجاه المسلمين سواء كلاجئين يهربون من أوكرانيا فيقال لهم: انتظروا حتى يمر الأوروبيون المسيحيون البيض البشر ثم أنتم، أو في توظيفهم للعمل كمرتزقة عبر سفارات أوكرانيا في العالم الإسلامي مقابل نصف أجر المرتزق الأوروبي؛ فقد نشرت سفارات أوكرانية في دول إسلامية، منها نيجيريا والسنغال والجزائر والعراق، إعلانات تجنيد للقتال ضد القوات الروسية الغازية بعد إعلان رئيس أوكرانيا فتح باب التطوع، وفعلت روسيا الشيء نفسه في العراق وسورية لتجنيد مقاتلين.
بعض من تقدموا للقتال بدافع الجوع والإنفاق على أسرهم -كما قالوا في نيجيريا لصحف رسمية- قالوا: إنه عرض عليهم راتب أقل يعادل 3300 دولار شهرياً، بدلاً من 7000 تدفعه أوكرانيا للمتطوعين الأوروبيين.
أوروبا التي تعارض دفاع المسلمين عن أراضيهم شجعت «الجهاد المسيحي» ولا تعتبره إرهاباً!
الموقف الغربي من تجنيد وإرسال مرتزقة يمينيين مسيحيين متطرفين للحرب في أوكرانيا كان أغرب؛ لأن أوروبا التي تعارض جهاد المسلمين ودفاعهم عن أراضيهم بدأت تشجع «الجهاد المسيحي»، ولا تعتبر هؤلاء اليمينيين المسيحيين «إرهابيين»!
بعبارة أخرى، أظهرت الحرب أن تسابق أوكرانيا وروسيا لتجنيد مقاتلين أفارقة وعرب مسلمين «لم يعد إرهاباً» في نظر الغرب، ما دام يخدم مصالحهم، بينما دعم العرب والمسلمين لفلسطين أو السوريين ضد بشار الأسد يعد إرهاباً!
وحين يبعث الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وأمريكا أسلحة إلى أوكرانيا فهم «ينصرون الديمقراطية والحرية» وفق تفسيرهم، بينما لو تبرع العرب لفلسطين يسمون هذا «دعماً للإرهاب»، رغم أن الدعم الرسمي العربي لفلسطين بالشعارات فقط!
لقد كشفت الحرب أيضاً استمرار ارتهان إرادة المسلمين بين الغرب وروسيا دون موقف مستقل، حيث يضغط كل طرف على العرب والمسلمين لدعم موقفه.
فقد تعرضت الدول العربية والإسلامية لضغوط مكثفة وتهديدات من أوروبا والغرب لإدانة روسيا، وتعرضت بالمقابل لضغوط روسية للوقوف معها، وفي كلتا الحالتين كان يجب أن يختار المسلمون ما يتوافق مع مصالحهم أو يحصلون على مقابل لمواقفهم من أي طرف بما يخدم مصالح دولهم، وهو ما لم يحدث.
الاعتماد على الذات
ما إن اندلعت الحرب وتوقفت سفن القمح والغلال القادمة من روسيا وأوكرانيا حتى تبين أن أكثر المتضررين الدول العربية والإسلامية لاعتمادها في غذائها وسلاحها على الغرب والشرق.
فالحرب تسبّبت بارتفاع كبير في سعر القمح والمأكولات الأساسيّة، وبعجز الأسواق العالميّة عن تلبية الطلب على هذه السلع؛ فأصبحت دول إسلامية كثيرة تعاني دون أن تدخل الحرب من ندرة الحبوب أو ارتفاع أسعارها في الأسواق.
الدول العربية تعتمد على روسيا بنسبة 34.4% من وارداتها من القمح و15.9% من أوكرانيا
وبحسب إحصاءات أوردتها «مبادرة الإصلاح العربي»، تبين أن الدول العربية مجتمعة تعتمد على روسيا بنسبة %34.4 من وارداتها من القمح، كما تستورد %15.9 من احتياجاتها من أوكرانيا، وأن دولة كانت تعتبر سلة غذاء العرب مثل السودان، التي يوجد بها 30 مليون فدان صالحة للزراعة تحتاج فقط لرأس مال وتكنولوجيا، تعتمد على قمح روسيا بنسبة %90، ومصر بنسبة %60!
هذا الارتهان والتسول العربي والإسلامي للغذاء من مصادر أخرى خارج البلدان الإسلامية جعل إرادة الدول الإسلامية السياسية رهينة وتحت رحمة الشرق الروسي أو الغرب الأوروبي والأمريكي.
هذا الاعتماد على الخارج في غذاء العالم العربي والإسلامي ظهر في أشكال أخرى أبشع، حين تبين أن الغرب يفضل دوله على الدول العربية والإسلامية في الغذاء وقت الأزمات، ويرفض تحويل سفن غذاء لدول عربية ويحولها لدول أوروبية! حيث كشف وزير التجارة الكويتي أن أمريكا أجبرت سفناً تحمل مواد غذائية إلى الدول العربية، على التوجه إلى أوروبا، مؤكداً أننا أمام مشكلة عالمية والوضع بالعالم خطير، وأكد أن سفناً كانت في طريقها للكويت والسعودية بها أرز وحنطة وبذور قامت أمريكا بتحويل مسارها إلى أوروبا، بحسب موقع «أوّل نيوز» الكويتي (13 مارس 2022م)، وكشف أن الدول التي بها مصادر للمواد الأولية الخام تمنع التصدير أيضاً بسبب الأزمة، وقد يمر العرب بمرحلة صعبة إذا لم يستعدوا ويجهزوا أنفسهم لمثل هذه الحالة؛ لذا يعتبر الدرس الأهم الذي خرج به المسلمون من هذه الأزمة هو أنهم اكتشفوا ضرورة اعتمادهم على الذات في الغذاء وأيضاً السلاح.
الديمقراطية أو الاستبداد
لو خرجت روسيا من الحرب منتصرة؛ فهذا معناه ضوء أخضر للأنظمة القمعية في الدول العربية والإسلامية لتمارس القهر على شعوبها دون خوف، مستندة إلى حماية روسيا لها في مواجهة الضغوط الغربية بشأن انتهاكات حقوق الإنسان.
ربما يفسر هذا ضمناً سر تضامن بعض الأنظمة القمعية العربية والإسلامية مع «بوتين» وروسيا في الحرب وتمنيها انتصاره؛ لأنها تمثل نموذجاً مشابهاً له، وسقوط موسكو معناه إضعاف هذه الأنظمة، كما هو حال نظام الأسد في سورية.
وعلى العكس، قد يكون انتصار أوكرانيا في تلك الحرب معناه تجدد الأمل في انتصار الديمقراطية في العالم رغم نفاق الغرب؛ لأن انتصار «بوتين» يعني انتصار نموذجه الاستبدادي وموت أمل الشعوب في التحرر والديمقراطية.
لكن هذا الخيار أيضاً قد لا يخدم العرب والمسلمين؛ لأنهم سيظلون رهن نفاق الغرب وسعيه للحفاظ على مصالحه؛ سواء كانت الأنظمة الإسلامية ديمقراطية أم دكتاتورية، بدليل دعم أمريكا وأوروبا لأنظمة الثورات المضادة التي جاءت على جثث «الربيع العربي»، والاكتفاء باستخدام سلاح حقوق الإنسان حين تحتاجه مصالحها.
انتصار روسيا معناه ضوء أخضر للأنظمة القمعية العربية لتمارس القهر على شعوبها
مع هذا، يرى خبراء أن انتصار روسيا عسكرياً، وصمودها في وجه العقوبات، قد يفيد العرب والمسلمين؛ حيث سينشأ توازن قوى دولي جديد ينهي هيمنة الولايات المتحدة، ويفتح الباب أيضاً للصين للصعود وربما غزو تايوان؛ ما يعيد أجواء الحرب الباردة ولعب المسلمين على وترَيْ خلافات القوى الكبرى، ويرون أن هذا قد يسمح للدول العربية بهامش للمناورة، كما أن ذلك الانتصار الافتراضي سيوقف الدعم الغربي للأنظمة المستبدة العربية، لكنها ستبحث عن البديل لدى روسيا التي قد لا تكون مؤهلة لذلك بقدر كاف.
هذا الاحتمال قد يكون أيضاً مشكوكاً فيه؛ فروسيا تدعم الاستبداد وقمع الشعوب، وتجارب الاتحاد السوفييتي التي يسعى الاتحاد الروسي لاستنساخها لا تزال عالقة في الأذهان، سواء في صورة استعباد دول إسلامية والسيطرة على مواردها ونهبها كما يفعل «بوتين» حالياً في السودان ومالي وغيرهما سعياً وراء الذهب والمعادن.
ربما لهذا يرى هذا الفريق الداعم لهزيمة روسيا أن هزيمتها ستعني هزيمة لنظام الأسد في سورية، ولمشروع حفتر في ليبيا، وهزيمة معنوية لكل النظم المستبدة التي تتلقى دعماً روسياً مادياً أو معنوياً.
البعض يرى أن هذا لن يفيد المسلمين أيضاً؛ لأن هذه الهزيمة الروسية التي ستعني انتصار المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة، ستعني أيضاً تكريساً للهيمنة الأمريكية عالمياً، بما يعنيه ذلك من تمدد المشروع الصهيوني.
وإذا كانت بعض الكتابات الإسلامية على مواقع التواصل تميل إلى فكرة تأييد روسيا؛ لأن الرئيس الأوكراني «فولوديمير زيلينسكي» يهودي وصديق لـ«إسرائيل»، فيجب عدم نسيان أن «بوتين» حليف قوي لـ«إسرائيل»، ويدعم غاراتها المميتة في سورية وفلسطين.
لذا، فالحل هو عدم ارتهان العرب والمسلمين لمعسكر روسيا أو الغرب (أمريكا وأوروبا)، والسعي للاستقلال الذاتي في الموقف السياسي، لكن هذا يتطلب اعتماداً على الذات (الغذاء، والسلاح) لتوفير أسباب القوة السياسية والاقتصادية، كما تفعل تركيا ودول إسلامية آسيوية أخرى.
لذا، فمن أهم تداعيات هذه الحرب المحتملة على المنطقة العربية على الصعيد السياسي أنها قد تفتح الباب لبحث ضرورة مراجعة بعض الأنظمة العربية حساباتها السياسية، وأن تدير ظهرها للغرب والشرق معاً، وتعتمد على ذاتها، وتتحالف فيما بينها، ويكمل بعضها بعضاً، وتستفيد من دروس تحالف الغرب مع أوكرانيا ضد خطر روسيا المشترك عليهم.
مكاسب تركيا
ربما تكون تركيا هي الدولة الإسلامية الوحيدة المستفيدة من الحرب الروسية الأوكرانية سياسياً لا اقتصادياً؛ فقد حققت أكبر مكسب حققته دولة إسلامية لسببين؛ الأول: أنها فرضت نفوذها على روسيا والغرب حين قررت تفعيل «اتفاقية مونترو» لعام 1939م التي تمنع مرور السفن الحربية الروسية والأمريكية والغواصات النووية في مضايق تركيا خاصة البوسفور.
الثاني: هو الأهم، فكان ما حققته طائرات تركيا من انتصارات على الجيش الروسي وتدميرها المئات من المعدات الحربية الروسية لتفوز في رابع حرب على التوالي بعدما انتصرت في سورية ضد قوات الأسد ومعه مرتزقة «فاغنر» الروسية، ثم ليبيا بالانتصار على الانقلابي حفتر ومعه أيضاً مرتزقة «فاغنر»، ثم أذربيجان بالانتصار على الأرمن في قره باغ، ثم في إثيوبيا حين أنقذت حكم رئيس الوزراء آبي أحمد من الانهيار بعد هجوم التيغراي على العاصمة أديس أبابا
وقد ظهر هذا الانتصار عبر نشر القوات الأوكرانية على صفحتها أغنية بعنوان «بيرقدار» للاحتفاء بما فعلته من تدمير لقوات الغزو الروسية ومعداتها.
لكن هناك تداعيات سياسية أخرى للحرب إذا انتصرت روسيا، فالصوت الانفصالي في اليمن الذي يمثله الحوثيون أو غيرهم في دول عربية أخرى سيشعر بالنشوة والارتياح بسبب انتصار الانفصاليين الأوكرانيين الذين دعمتهم روسيا في منطقة دونيتسك، بينما هزيمة روسيا قد تنعكس على رسالة مغايرة تماماً.