في زاوية من ضيعتها الصغيرة بريف القيروان وسط تونس، تجلس العجوز “حسناء” بجسمها النحيف في صمت صاخب كأنها في صلاة أمام أشجار الزيتون المحتضرة، التي حاصرها الجفاف ويبست الأرض من تحتها حتى تشققت.
تتفحص العجوز أوراق الزيتون كأنها تريد إنعاشها بدموعها، التي جفت من طول التضرع في انتظار الأمطار لتغيثها وشجيراتها.
وتقول الفلاّحة الستينية في حديثها للأناضول: “أشجار الزيتون المحدودة كل ما أملك أنا وأولادي، وعندما أنظر إليها والموت يتهددها بسبب الجفاف، أشعر أنني أفقد حياتي معها”.
وأضافت أنها انقطعت عن عملها الفلاحي بالمزارع منذ أكثر من عام، بسبب الجفاف الذي عمّ قرية “سيسب” بالقيروان.
وتابعت: “أريد الماء لسقي أشجار الزيتون، وأعود إلى عملي الفلاحي لأعيل أسرتي”.
وقبل أعوام كانت هذه الأراضي خصبة قبل أن يجتاحها الجفاف، فتوقف ضخ المياه من سد نبهانة، والتي كانت تروي مساحات واسعة من ريف معتمدية السبيخة بالقيروان، وولايات ساحلية مجاورة.
وسط أرض محروثة، يقف الفلاح علي دبش، يشرح أثر الجفاف على النباتات، ويقول للأناضول، إن “هذه الأرض كان يفترض أن تصبح في منتصف مارس/آذار حقلا للحبوب يغطيها اللون الأخضر”.
وأشار دبش، إلى أن البذور التي بذرها على أمل أن تنبت سنابل دفنت تحت الأرض لعدم حصولها على ما يكفي من الماء، فبدت كأنها صحراء قاحلة أو حقلا مرّ عليه الجراد فلم يترك أخضرا ولا يابسا.
وأردف: “لقد توكلنا على الله وبذرنا حبوب القمح والشعير وكنا نأمل أن ينزل الغيث، ولكن اليوم بلغنا حالة من اليأس من نجاح موسم الحبوب بسبب تأخر الأمطار وشح مياه الري”.
واعتبر أنه حتى ولو نزل الغيث فإن هذه الأراضي لن ينبت زرعها وأفضل ما يمكن توقعه أن “تصبح مراعي للمواشي، التي هزلت وجف ضرعها، بسبب نقص العلف”.
مئات الهكتارات من الأراضي الزراعية الممتدة على سهول “سيسب” تواجه مصيرا صعبا ومنعرجا خطيرا مع تواصل نقص مياه الري، إما غيثا من السماء أو تدخلات وزارة الفلاحة لحفر آبار جوفية.
ويحاول الفلاحون إنقاذ ما يمكن إنقاذه عبر جلب صهاريج المياه مدفوعة الثمن (13 دولار للصهريج) أصبحت مكلفة، بينما لا تكفي لسقي 10 أشجار زيتون أو رمان، والحال أن أعداد الأشجار بالآلاف.
بكل وجع وحسرة، يكسر الفلاح نور الدين دبش، الأغصان اليابسة التي أهلكها الجفاف ليُبيّن حجم المأساة والفاجعة التي يعيشها أغلب فلاحي القيروان من جراء تواصل أزمة الجفاف.
ويشير إلى حبات الرمان التي “تلفت العام الفارط وتكبدنا خسائر كبيرة، وها هي أشجار الرمان هذا العام تواصل التأثر بالجفاف، ولم تطلعنا بأوراقها كما عهدنا أن تورق في مثل هذا الوقت” من كل عام.
يتحدث الفلاح دبش بمرارة للأناضول، عن الأثر الذي يخلفه هذا الوضع الصعب على قطاع الفلاحة، الذي يعد المصدر الأساسي والوحيد لقُوت آلاف العائلات.
ويرتبط بقطاع الفلاحة أنشطة النقل والتجارة. وهذا الوضع الصعب ضيق الخناق على اليد العاملة فتعمقت بطالتها، وأثرت على مستقبل الشباب الذين تركوا القرية ورحلوا إلى المدن، بينما هاجر عدد كبير منهم بشكل غير نظامي إلى أوروبا.
وتسبب هذا الوضع في انقطاع أطفال الأسر الفقيرة عن الدراسة بسبب تكاليف التعليم، التي تتضاعف في المناطق الريفية المعزولة.
وقال شاب عشريني ابن أحد الفلاحين، للأناضول، إن فكرة الهجرة غير النظامية تراوده منذ انقطاع مياه الري، وتعطل النشاط الفلاحي.
الشاب الذي فضل عدم الكشف عن اسمه، ذكر أن والده عهد إليه بأرض فلاحية مساحتها 8 هكتارات (80 ألف متر مربع)، لتكون مصدر قوته ومستقبله بعد الانقطاع عن الدراسة في مبكر.
ويكشف أن انقطاع المياه جعله وجها لوجه مع فكرة الهجرة، التي ينميها إغراءات وعروض لتنظيمات تشرف على الهجرة الجماعية والتي لم تعد سرية، وإنما تعرض خدماتها على الشباب مستغلة حالة اليأس.
سعيدان بوزيد، رئيس مجمع دار الجمعية الفلاحي (هيئة أهلية)، لفت في حديثه للأناضول، إلى أنه بعد توقف مياه سد نبهانة لم يعد للفلاحين المشتركين أي مصدر لمياه الري في مواجهة الجفاف.
واعتبر الفلاح بوزيد، أن الجهات الحكومية تأخر تدخلها، مبرزًا مراسلات وجهتها الجمعية إلى وزارة الفلاحية في أكثر من مناسبة من أجل التدخل لحفر آبار عميقة لري المساحات الزراعية.
وقال إنه وضع قطعة أرض على ذمة وزارة الفلاحة لحفر بئر عميقة، لكن وزارة الفلاحة أعلمته أن المنطقة أصبحت مصنفة حمراء يحجر فيها حفر آبار عميقة.
والتحجير الرسمي، بسبب نقص المياه الجوفية، لم يمنع من قيام بعض الفلاحين بحفر آبار دون تراخيص، رغم أعين الرقابة الفلاحية.
ويبرر الفلاحون ذلك بخشيتهم من تيبس أشجارهم وموتها، إن بقيت بلا ماء، مقابل ارتفاع تكاليف سقي بواسطة الصهاريج.
ووفق إحصائيات رسمية للمعهد الوطني للرصد الجوي (حكومي) لا تمثل كميات الأمطار التي هطلت خلال الموسم الفلاحي إلى حدود يناير/كانون الثاني الماضي، سوى 60 بالمئة من الكميات المعتادة، والنقص يكون أكثر حدة في مناطق الوسط والجنوب.