إذا قيل: إن الأدب تعبير عن ذات الأديب، فأنا أرى في الخطيب ما يرونه في الأديب، أعنى أن الخُطْبَةَ علم، وخلق، وإبداع تعبر عن ذات الخطيب، وأحوال مجتمعه.
والخطيب الفطن يوقن بأنه لن يصنع صنيعاً ينيل الإسلام، وينيل منبره –أيضاً- كسباً أزكى ولا أعز من أن يعالج في خطبته قضية ما، حيث يسعى بعلمه وفهمه وأدائه إلى تصوير المشكلة، وبيان علاجها بأن يُنْطِق الأفكار بالحلول ذات المرجعية الإسلامية، تماماً كما يفعل الأديب الأريب المتمكن من أدواته.
وكلما تراءى لي هذا الفهم أشرقت من بين تفاصيله صورة المرحوم بإذن الله الشيخ أحمد عبدالعزيز القطان بصوته الذي كان أبلغ في التذكير، وأدائه الذي كان أدعى إلى التأثير، وليس للنسيان سلطان عليهما.
ويدفع هذا التميز المشهود للشيخ خيالي، فتتتابع في دهاليزه الصور الخيالية، ويتراءى لي الشيخ متميزاً منذ وُلِدَ بمنطقة المرقاب عام 1946م بمدينة الكويت، ومنذ راح يدرس التربية الإسلامية في بواكيره، وكلما صعد على سلِّم عمره، انسدل عليه التميز، وأرخى أستاره فوق أفكاره.
ولنستمع إليه، يرحمه الله، لنستبين بعضاً من تميزه لما بلغ من العمر اثنين وعشرين عاماً، واختلط بالشيوعيين في الكويت، يقول، في كتاب “العائدون إلى الله، مجموعة من قصص التائبين” لمحمد بن عبدالعزيز المسند، مبيناً الحالة المزاجية لشخصيته في قصة هو بطلها:
“إن في الحياة تجارب وعبراً ودروساً، لقد مررت في مرحلة الدراسة بنفسية متقلّبة حائرة، وتخرجت في معهد المعلمين عام 1969م، وفي هذه السنة التي قبلها حدث في حياتي حدث غريب تراكمت فيه الظلمات والغموم، إذ قام الحزب الشيوعي باحتوائي ونشر قصائدي في مجلاتهم وجرائدهم والنفخ فيها”.
وأراد الله له الهدى، فراحت فطرته النقية تفرز أفكارهم التي تشي بها أحاديثهم، إذ فيُكمل: “وبينما أنا أسمع هذا الكلام، أحسّ أن الفراغ في قلبي بدأ يمتلئ بشيء لأنك إن لم تشغل قلبك بالرحمن أشغله الشيطان، فالقلب كالرحى يدور فإن وضعت به دقيقاً مباركاً أخرج لك الطحين الطيب وإن وضعت فيه الحصى أخرج لك الحصى”.
وما زال سواء فطرته ونقاؤها يدفعانه إلى النقاء والسواء، وربما عاش بقية عمره يتذكر بود فياض وعرفان وفير هذا المساء الذي قال عنه: “ويقدّر الله أن يأتي أحدهم إلىّ ويقول: يا أخ أحمد، يذكرون أن شيخاً من مصر اسمه حسن أيوب جاء إلى الكويت ويمدحون جرأته وخطبته، ألا تأتي معي؟ فقلت: هيا بنا، وذهبت معه وتوضأت ودخلت المسجد وجلستُ وصليتُ المغرب ثم بدأ يتكلم وكان يتكلم واقفاً لا يرضى أن يجلس على كرسي، وكان شيخاً كبيراً شاب شعر رأسه ولحيته، ولكن القوة الإيمانية البركانية تتفجر من خلال كلماته؛ لأنه كان يتكلم بأرواح المدافع لا بسيوف من خشب، وبعد أن فرغ من خُطبته أحسستُ أني خرجت من عالم إلى عالم آخر، من ظلمات إلى نور لأول مرة أعرف طريقي الصحيح، وأعرف هدفي في الحياة ولماذا خُلِقْت، وماذا يراد مني، وإلى أين مصيري”.
لحظة صدق مع نفسه التواقة، عرف معها طريقه، ومضى عليه بخُطى تتوافق مع تميزه، لننصت إليه إنه يُـكمل: “واشتريت جميع الأشرطة لهذا الشيخ، وأخذتُ أسمعها إلى أن طلعت الشمس ووالدتي تقدم لي طعام الإفطار فأردّه، ثم طعام الغداء وأنا أسمع وأبكي بكاءً حارّاً، وأحسّ أني قد ولدتُ من جديد، ودخلتُ عالماً آخر، وأحببتُ الرسول صلى الله عليه وسلم، وصار هو مثلي الأعلى، وقدوتي وبدأتُ أنكبُّ على سيرته قراءةً، وسماعاً حتى حفظتها من مولده إلى وفاته صلى الله عليه وسلم، فأحسستُ أنني إنسان لأول مرة في حياتي، وبدأت أعود فأقرأ القرآن فأرى كل آية فيه كأنها تخاطبني أو تتحدث عني؛ (أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا) (الأنعام: 122).
نعم، لقد كنت ميتاً فأحياني الله، ومن تلك اللحظة بدأت أدعو إلى الله رب العالمين.
ومن تلك اللحظة، وبها ومعها انطلق في رحلة طويلة، متطلعاً إلى حلم ملأ نفسه، وتوحد مع هواتفه ودواعيه، غير عابئ بأبعاد الأحلام الأخرى، انطلق على طريق الحركة الإسلامية، وقد تأصل حب النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه، وخالط شغاف قلبه، وراح قلبه يضخه في أوردته وشرايينه، فانطلق على طريقه ومن فوق منبره، وفياً لأسس وخصائص العالم العامل، وسمات الخطيب الواعظ، محاولاً رسم الصورة المثلى التي يجب أن يكون عليها المجتمع المسلم، وامتد انطلاقه، وطال وقوفه إلى نحو الخمسين عاماً، باتت بين أيامها، وتبدت بين ساعاتها قضية الإسلام بصفة عامة، وقضية القدس بصفة خاصة، هدفين يخدمهما، وأملين ينشدهما من وراء علم واسع حصله كصابر ومثابر، وجهد مخلص بذله فوق المنابر، ومن الأليق بنا هنا أن نستعير منه كلماته عن الشيخ حسن أيوب، فليس أوفى منها في وصف حالته عندما علت به السن وما زال يعتلي منبره، بينما يعتليه تميزه، يقول: “وكان شيخاً كبيراً شاب شعر رأسه ولحيته ولكن القوة الإيمانية البركانية تتفجر من خلال كلماته لأنه كان يتكلم بأرواح المدافع لا بسيوف من خشب”.
وعلى هذا الفهم ربى أجيالاً، زارعاً في نفوسهم حباً لـ”الأقصى”، هذه الأجيال لقبته بفارس المنابر، وعاشق القدس، ورحل هو وتركها تتطلع لليوم الأكبر، مستشرفة يوماً فاصلاً كيومِ خيبر.
وارتفع شأنه كفارس بين الفرسان الذين يمتطون صهوات المنابر لأنه كان يستلهم أفكار خُطبه مما يقع في العالم من حوادث، ويربطها سلباً أو إيجاباً بأفكار الدين القويم، وقد نما حبه سريعاً في القلوب لاتفاق أسلوبه الخطابي مع ميول غالبية المسلمين حتى قيل عنه: “وصار من أبرز خطباء حركة الصحوة الإسلامية في ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن العشرين في الكويت، ودول الخليج”، وأستأذن لأضيف: بل وفي كل البلاد الإسلامية.
وبعد مسيرة امتدت إلى 76 عاماً انتهج خلالها منهج الوسطية والاعتدال في الدعوة، وتربيته الأجيال، حتى اختير كأفضل أستاذ للجيل المسلم في جائزة أستاذ الجيل المقدمة من ملك البحرين في عام 2009م.
وبعد عمر حفل بالعطاء، أفرز خلاله دستوراً إسلامياً كاملاً، ينتظم:
العديد من المؤلفات، أبرزها: سلسلة اللمسات المؤمنة للأسرة المسلمة، سلسلة تربية الأولاد في الإسلام، وسلسلة خواطر داعية، سلسلة العفن الفني، سلسلة قراءة لكتاب رياض الصالحين، سلسلة ثورة الشعب الفلسطيني، سلسلة السيادة لله، سلسلة إعداد الفاتحين، سلسلة مفاتيح الجنة، سلسلة مع الشباب، مئات المحاضرات المسجلة، صدى صوته يتردد فوق آفاق المنابر.
وفي يوم الإثنين 22 شوال 1443هـ/ 23 مايو 2022م، وما نحسبه إلَّا وقد تاق إلى مصيره، فكفَّ عن زئيره، لتصعد روحه إلى فردوس الجنات إن شاء الله، وتوارى جسده مقبرة الصليبخات، تاركاً من الأبناء أربعة: عبدالله، وإبراهيم، وعبدالرحمن، ومحمد، ومن البنات عشر (من زوجتين) ليشرق اسمه فوق أسمائهم، وتتألق ذكراه بين تفاصيل حياتهم.