كان قد انطوى كما الأيام الجميلة، سرقها لصوص الزمن في بلاد تصلب أولياء الله فوق جذوع الشجر، تحتفي بالعابرين فوق الفرش الحمراء، ماكينات صوت فارغة.
تقلب في فراشه، لم يحظ بساعة نوم هانئة منذ ذلك اليوم الذي احترق فيه أمله، ظلت تلك الذكرى تنهش قلبه وتنزف كلما حاول نسيانها، ارتحل بعيدا؛ فالمنافي أوطان، والحديث المليء بالكنى والألغاز ممجوج تكاد نفسه تقيئه، هل آن بعد كل هذه الآلام أن نتوقف لاسترجاع الذاكرة، بدت هذه الجملة عصية على النسيان؛ يسائل نفسه: ترى لم حدث كل هذا؟
يجيبه صدى أصفر كالعدم الذي يعتاش عليه: خسرنا أجمل أحلامنا، اتشحت بالسواد واجهات البيوت، ألم يكن يكفي نعيق الغربان فوق تلك الأشجار الذابلة؟!
أن يتراجع هؤلاء الحالمون بالجنة في بلاد تراقص الموت علانية وتشرب الدم خمرا، تقتات الجهل وتقدم صفوة أبنائها قربانا للنار تأكله؟
حتى الثرثرة عند ضفة النهر باتت غير ذات جدوى، إنه العناد القاتل؛ يكفي أن آباءنا ارتحلوا دون أن يوقعوا لنا تلك الأوراق، كل وثائقنا لا نفع منها، لم يعد يهتم أحد بهؤلاء المتسكعين في ممرات التاريخ.
كانت تلك هلاوس ساعة اليقظة، بالليل تبدو مثل نتوء شاخص.
سكنا مدن الملح وغاصت فيها أقدامنا، حين أشرقت الشمس ذابت كرة الثلج؛ لا يحفل أحد بعاجز أو ضعيف تتربص به الذئاب عند منعطف الطريق.
لم يكن ربيعا بل كان ما حدث جناية كبرى؛ خطيئة لم تكفِ كل تلك الدماء المسفوحة أن تكفر عنها، حين تشتعل النار في حقول القمح وتعجز أن تطعم صغارك فأنت عاجز، تطاردك الكلاب وتنبح خلفك في إصرار تحاول الهرب منها؛ تغرس أنيابها في جسدك الضامر، تنكفئ على حلمك الذابل ومن ثم تتسرب كاللص أو السارق في الحواري والأزقة لا جدار يحميك ولا كهف فتية آمنوا تأوي إليه، تظل تحمل همك ولا تعبأ بغدك.
تذكر حين استند إلى شيخه يلتمس نصحه، لم يهش في وجهه، تلقاه عابسا؛ يؤسفني أن أخبرك: لقد فات أوان الحديث؛ ألم أخبرك بأن معاندة القدر وهم؟ لا يستجيب فهو الآن بيد الله؛ لحكمة يسيره إلى بلاد الثلج أو أخرى تعبد الشمس؛ زمن الأولياء تبخر؛ انقضت اللحى الزائفة على ثياب العذراء فمزقتها؛ لقد طاردوا المسيح ولم يحفلوا بآلامه.
أثمر زمن الخرس في كل النواحي؛ بديلا عنه تعزف الجوقة ألحان النصر وتشرب نخبه نكاية في المعدمين والمهمشين؛ يتألم أن لم يركب قطار الساعة الرابعة والعشرين ونصف؛ نعم هي ساعة النداهة ومن ثم يسافر إلى بلاد تعتصر شباب اللاجئين، في دور الإيواء تقام أسواق نخاسة تشبه ما حدث لـ”كينتا كونتي” في رواية “جذور”!
تطارده تلك الغيلان ذات الوجوه القبيحة؛ يسلمه نزق المشتهين للكراسي، هل آن له أن يعترف بأن ثمة خديعة كبرى وقع في شركها؟
هل كان الحلم بعالم أفضل مجرد نزوة عابرة، مجرد صيحة في واد مجوف؛ ومن ثم يعاود التاريخ مسيرته؟
بات يكره ذاته، يجلدها عند كل منعطف، يكره الذين دفعوا بالبراءة إلى ساحة الاتهام؛ يتماهى مع ذوي السترات الكابية الألوان؛ يلتمس لهم مبررات في بلاد الله تطويه سكة وتظهره حارة، تخفى والسر جرح لما يندمل؛ تأوه حسرة؛ لم يعد في القلوب متسع لأصحاب الجراح، الأبواب مغلقة والألسنة حداد، يداوي همه، يرقب نجوم الليل عدا، الموجعون لا ينامون، محجوب ابن ستر الله، لا أحد يعرف من يكون؟
تعددت الأقاويل: ابن الرومية، تلك المرأة التي خطت في شارع الندامة يوما، لا.. إنه أسود هجين، تصيح المغربية؛ البطن قلابة؛ عالم بالسر يمكن يكون وقد لا يكون، ابن رجل من أهل الحظوة؛ الولايا غجر شعورهن حبائل مجدولة أو أسلاك ذهب؛ عيونهن غزلان بر نافرة، الضعف يذل الغرباء؛ النظارات السوداء لا أحد يجرؤ أن يرد لها طلبا!
ابن ستر الله له عود أشبه بشجرة السرو؛ الناس تهاب العصا، عيناه تومضان بالبرق، تسامع به البر، فتوات تملك الشوارع والأزقة؛ إتاوة وراء أخرى، والفقر يهد الحيل. ثمة تفاصيل لم أعد أحيط بها؛ تدور في الزمن رحى الطاحونة، الصمت والقهر يتعاقبان في مشهد يتكرر في تلك النواحي، هل هو القدر فرض سطوته مثلما فعل بنا المرض؟
ربما تلك أشياء تظل عالقة في ذاكرة الآباء، نحن الصغار نتناساها لا نهتم بها، لدينا رغبات لما نشبعها بعد!
متاهة ندخلها، لم يعد طعم للفرح بل نتشح بالسواد مختارين، يروي النيل الوادي بماء الحياة، لكن البلاد صخور صلدة.
في هذا اليوم وكما هي العادة تهب الريح توشك أن تخلع البيوت التي نتوارى خلفها، مهددة أحلامنا، تآكلت ذكرياتنا، صرنا أناسا بلا وتد، تموء القطط من جوع، تنبح الكلاب من خوف، عيون تدور في حفر وجوه ذابلة، ثم بعد؟
تتراقص الأوهام فوق رؤوس قتلها الجهل وهدها الوجع!
أمسك بيد أشبه بعود من قش بطرف جلباب أمي، تضربنا الشوارع وتلطمنا الأبواب المغلقة، ألف وجه كالح يبصق في وجهينا، لا دار لنا بل نسينا أن لنا اسما؛ صرت الولد وأمه، يرانا أهل الكفور والعزب غجرا، يتمزق ثوب أمي، تنغرس أشواك الطريق في قدمي، تطاردنا الكلاب حين نمر بها، كثيرون سمعتهم يقولون: الغجر غرباء، لصوص يسرقون الكحل من العيون.
لم يعد لدي ما أختزنه غير تلك الجراح والكنى والألقاب التي حملتها معي كلما ارتحلت منفيا أو مطرودا من مكان إلى آخر؛ ومن البلاء الذي أحاطني وجه أسود وعرجة في قدمي؛ دائما ما تخوف الأمهات صغارهن من ذلك الأسود المجدور؛ أحدب من يراه يحسبه ابن خمسين عاما؛ وما أنا إلا في ريعان صبا لم يمر بعد بجسده الذي أثقلته الأيام واليتم؛ بلاد كلها برودة شتاء قاس.
سمعت أن دهن العطار الذي أتشممه كل مساء والذي يتزاحم عنده رجال يشتكون من عجز ليل يلازمهم قد أشفى به؛ أحتاج أنثى تطفئ ذلك اللهب الذي يحرقني؛ لا أحد يهتم بهؤلاء المهمشين الذين يعبرون الطرقات كجرذان بركة الماء التي خلفها شتاء قبع هنا فصولا، من تراها ترضى بمجدور تعلوه حدبة شوهاء؟
يقال إن الغجر يتناسلون كما القطط في شهر آذار؛ تضع إناثهم ما تحمله بطونهن في تلك الليالي التي يغيب فيها القمر؛ ومن ثم يحلو لكل واحدة أن تلحق وليدها بمن تشاء؛ من لديه السمن والمرق أو من يلتحف بعباءات من صوف أغنام تتهادى في مراح يزدهي بالبقول.
من الغريب أنني سمعت بقصة عيسى ابن مريم؛ تخيلوا لقد اعتقدت أنني هو؛ في بلاد تجتر الحكاية وتتسلى بالأنين؛ لكن لم أفلح يوما في شفاء جسدي حتى تحيط بي الكرامات؛ البلاد تنكر بعضها، أدب في أرض الله، لا أحد يهتم بنمل أو جراء، يقيمون الاحتفالات للكبار الذين يضعون نظارات سوداء أو يرتدون ثيابا تتراقص فوقها الأوسمة والنياشين، محروس بائع الهرابيد ينتشي طربا كلما سمع أن واحدا من هؤلاء غادر درب سعادة في تلك المدينة التي تسرق الخبز من أفواه اليتامى.
يحتفون بهؤلاء الذين أثقلونا بالغباء؛ عرفت كل هذه الأشياء حين تسمعت أخبار الذاهبين إلى بلاط السلطان؛ تمنعني أمي من أن أستشرف واجهة باب القلعة، تتراقص الخيول في ساحة ميدان الرماية، من أرسل كل هؤلاء الغرباء إلى بلادنا؟
الآن أشعر بأن جذري يمتد أعماقا، بت أكره كل هؤلاء الغجر، لم يكن لي مفر من أن أتخلص من ذلك الوشم الذي خطته جدتي بوجهي؛ علامة تشير إلى أنني من هؤلاء الذين يسكنون هامش المدينة آونة عند مقابر الشافعي أو بجوار سور القلعة، يحرم عليهم أن تراهم شمس الرحبة وسط الميدان؛ الأولياء وحدهم يهبون المطرودين أرغفة الخبز مغموسة بها قطع اللحم؛ أبواب الله دائما ما تحن إلى الضالين؛ سمعت شيخ التكية يهتف بالمارين جوار البيوت المغلقة؛ ثوب خشن وراية خضراء، خيول تتهادى أرنو ببصري عسى يوما أن أجد طريقا يحملني إلى بوابة مولانا السلطان؛ يقولون إنه يشرب كأس الولاية من يد شيخ التكية؛ وفي منتصف الليل يعلق فوق بوابة المتولي رؤوس الذين يمرون بأحلامهم حيث أسوار القلعة العتيقة، حيث يشتهي الغجر الخبز المحشو لحما؛ الأثداء التي تضج أنوثة؛ العيون التي تدور في وجوه الغزلان؛ يلعبون في ساحة القصر الذي يجري تحته النهر؛ هل حقا آن أن أتخلص من الوشم أو من ذلك اللقب الذي لازمني زهاء ربع قرن؛ أن أكون ابن أبيه الذي جرى من صلبه دون أن يكون غجريا؟
ثمة نقش على حجر عند مدخل الغورية جهة بوابة المتولي؛ تكون المحروسة في عين الله ما دام الغجر يشربون من مجرى العيون عذبا لم يتغير طعمه؛ يخرج من شارع النحاسين سيف ذهبي؛ سنون عدة وبعدها يغاث الناس ويعصرون عنبا؛ تتفتح خدود الفتيات؛ تثمر أشجار البرتقال حبات شهية؛ تحلب العنزات لبنا يملأ وعاء يوسف، سبعة أيام يتساقط المطر فترتوي الأرض؛ تخرج المحروسة كنوزها.
ينسى الغجر أنهم منفيون في جوف البر؛ يصلي الأتابك متطهرا من درن وباء أصفر.
لكن المفاتيح مصابة بالصدأ؛ بعضها بيع في سوق النخاسة الكبير؛ الهجانة يشعلون جنوب الوادي حرائق؛ شيوخ مقهورة؛ إنهم هناك يروون الثرى بدماء المنفيين؛ ألم أقل لكم إن الغجر يطاردهم الأتابك أين وجدوا!