لكي نعرف أهمية الإنجاز الحضاري الذي حققه المسلمون بتحرير الشام ومصر وبلاد المغرب من سيطرة الرومان، سنحاول إلقاء الضوء على طبيعة تلك الإمبراطورية وتاريخها الدموي، والمذابح التي ارتكبتها ضد الشعوب.
يقول مونتسيكو: لم يكن الرومان أصحاب تجارة أو صناعة، فكانت الحرب هي وسيلتهم الوحيدة للكسب والثراء؛ لذلك كانت روما في حرب مستمرة وعنيفة، ولهذا السبب تراكمت لدى الرومان خبرة فائقة بفنون القتال، ونتج عن ذلك أن الرومان لم يهادنوا قط إلا على نصر، فما الفائدة من مصالحة شعب قبل أن يقر بالهزيمة؟!
وجرياً على هذا المنطق، فإنه حتى في حالة انكسارهم لم يكونوا يخففون من شروط الصلح، بل كانوا يضيفون شروطاً جديدة، يصدمون بها العدو، وكان المقاتل الروماني يعلم ما ينتظره من تنكيل إن هو سقط في يد عدوه، فلا يسعه عندئذ إلا الصمود دفاعاً عن نفسه وعائلته ووطنه دون أن يميز بين هذه الدوافع الثلاثة.
تميزوا في الحرب فقط!
تمكن الرومان من إبداع فنون وأساليب للقتال لم يسبقهم إليها أحد، وجعل الرومان الحرب همهم الأول وصناعتهم الوحيدة، فاجتهدوا لإتقانها وتطوير أساليبها.
لذلك قدس الرومان فكرة الانضباط العسكري وإطاعة أوامر القادة، وقيام الجنود بالتدريبات العنيفة، مع الترويج لفكرة عنصرية هي أن الروماني وُلِد ليسود.
وقد تعود المقاتلون الرومان على رؤية الدم يتدفق من الجراح بمشاهدة المصارعين في الملاعب.
يقول مونتسيكو: لم توجد قط أمة استعدت للحرب مثل روما، وخاضت غمارها بمثل حزمها وهمتها.
ولقد أوضحت الحرب التي شنها الرومان ضد قرطاج أن الرومان يتميزون بالقسوة الشديدة، وكانت دولة قرطاج قد تمكنت من السيطرة على شمال أفريقيا، واستطاع القرطاجيون إلحاق الهزيمة بالرومان في عدد من المعارك بقيادة هنيبعل، وحقق جنود قرطاج الثراء نتيجة الغنائم التي حصلوا عليها فاستكانوا وألفوا الراحة.
لذلك استغل الرومان الفرصة، وحققوا انتصارهم الحاسم على قرطاج، ويوضح التاريخ كيف استطاع الرومان أن يقهروا القرطاجيين ويذلوهم بعد إبادة جيشهم بكل قسوة.
هذه المعركة توضح طبيعة الرومان، وما يتميزون به من غلظة وقسوة وعدم اهتمام بالحياة الإنسانية، فبالرغم من استسلام قرطاج فإنهم قاموا بإحراقها، والتمتع بتعذيب أهلها وقتلهم ومشاهدة دمائهم تتدفق.
وكان من الواضح أنهم يريدون نشر الرعب في كل المنطقة بعد أن يتناقل الناس القصص حول أساليب الرومان في التدمير والحرق والإبادة حتى تنتشر الهزيمة النفسية في الشعوب.
استعباد الشعوب
كان الرومان يستخدمون قصة قرطاج وما تعرض له سكانها من إبادة لترويع الشعوب وإجبارها على قبول العبودية للرومان.
وكان الرومان يتحالفون مع بعض الشعوب لمساعدتهم في حروبهم، ولكن بعد النصر ينقلبون على حلفائهم ويقومون بتدميرهم، ولقد حدث ذلك مع كثير من الشعوب، وإذا واجه الجيش الروماني عدة أعداء فإنهم يقومون بمصالحة الأضعف والاستعانة به، ثم تدميره بعد تحقيق النصر.
ولذلك كانت سمة الغدر واضحة في سلوك الرومان، كما أنهم كانوا يبدعون في إلحاق الضرر بأي شعب؛ لذلك تفضل الشعوب الابتعاد عنهم حتى لا تكتوي بنارهم، فهم لا يعترفون بأي شعب.
وكان من أهم أساليبهم العسكرية أنهم يحرصون على عدم إجبارهم على حرب، بل كانوا هم من يختارون دائماً متى وكيف ومن سيحاربون، لذلك نشروا الخوف والرعب في قلوب الشعوب، كما كانوا يحرصون على إهانة وإذلال أي شعب يسيطرون عليه، ويتعاملون مع الناس باعتبارهم عبيداً.
عدم الالتزام بالاتفاقيات
دراسة تاريخ الإمبراطورية الرومانية توضح أنهم لم يلتزموا يوماً باتفاقية أو معاهدة أو صلح مع أي دولة أو شعب، فلقد كان هدفهم دائماً الاستيلاء على كل شيء، وعندما يرسل الإمبراطور سفيراً إلى أي دولة فإنه يخاطبهم باستعلاء، وبلهجة الأمر، فإذا غضبوا وأساؤوا معاملته، اتخذ الإمبراطور ذلك ذريعة لشن الحرب عليهم.
وعندما ينتصر الرومان يفرضون شروطاً تؤدي بالضرورة إلى تدمير الدولة التي تقبلها مثل التخلي عن الأسلحة، وتقليل عدد الجنود إلى مستوى معين، وتسليم الخيل، وإحراق السفن، والابتعاد عن الشواطئ.
كما كان الرومان يفرضون على الشعوب المغلوبة الكثير من الضرائب والإتاوات التي تؤدي إلى فقرهم كما حدث مع شعب مصر، الذي كان الرومان ينهبون إنتاجه من القمح، ولا يتركون له إلا القليل، فكان المصريون يعانون المجاعة المستمرة بينما ينعم الرومان بإنتاجهم من القمح.
الرهائن
وكان من الوسائل التي اتبعها الرومان في عقد المعاهدات مع الدول أن يأخذوا أحد أبناء الأمير أو إخوته رهينة، وعادة ما يكون الرهينة ولي العهد لكي يستخدموه في ابتزاز الأمير أو الملك وإخضاعه.
وكان التحالف مع أي دولة أو شعب يعني التسليم بالخضوع التام للإمبراطورية الرومانية، ومع ذلك كان يفضل الأمراء هذا التحالف بكل ما يتضمنه من إهانة لكرامتهم لأنهم كانوا يجدون في ذلك التحالف أفضل وسيلة لتثبيتهم على عروشهم، ولذلك شهد العالم الكثير من الأمراء الذين فضلوا إهانة الرومان لهم وقهرهم في مقابل إطلاق يدهم في قهر شعوبهم، وهؤلاء الأمراء يقومون بجمع الأموال من شعوبهم لتسليمها للإمبراطور، مع الاحتفاظ بالقليل منها لأنفسهم.
وكان الأمير الذي يتحالف مع الرومان يدرك أنه لن يتعرض لظلم أو إهانة إلا منهم، ولذلك فإنه يكون مستعداً دائماً للقيام بأي خدمة يطلبها الرومان مهما كانت مشينة مثل ملوك مصر، حيث كان الرومان يستخدمون هؤلاء الملوك والأمراء في شن الهجمات على شعوب أخرى بهدف إخضاعها للرومان، لذلك كانوا يقومون بالحرب بالوكالة عن الرومان ولتحقيق أهدافهم وللحصول على الغنائم وسلب ثروات الشعوب لهم.
وكان الرومان يحظرون على حلفائهم التحالف مع أي أحد حتى لو كان من حلفائهم، فالتحالف بين حلفاء روما محظور حتى لا يقوى أحد منهم.
كما حرص الرومان على تقسيم الشعوب التي سيطروا عليها إلى فئات متناحرة لضمان السيطرة عليها، واستخدام هذه الفئات ضد بعضها، وفي الكثير من الأحيان يكون الهدف هو أن يتمتع الرومان برؤية دماء الشعوب تتدفق، وكانت الفئة التي تتمتع بتأييد الرومان هي التي تقتنع بأنه لا قانون يعلو على ما تقرره روما.
لا حرية للشعوب
دراسة تاريخ الإمبراطورية الرومانية توضح عدم اعترافها بحرية الشعوب، فكلها تخضع لإرادة الإمبراطور، والذي يتولى السلطة في أي دولة أو إمارة هو من يثبت ولاءه للإمبراطور بإخضاع شعبه وقهره، وفرض الضرائب والإتاوات عليه، ويحظر على أي أمير أو ملك استخدام القوة في الصراع ضد أي عدو داخلي أو خارجي، فاستخدام السلاح يكون للرومان وحدهم، والإمبراطور هو من يقرر متى يتم استخدام السلاح.
وفي الكثير من الدول يكون سفير روما هو الحاكم الفعلي للدولة كما في حالة مصر.
الوصاية على العالم
وكان من أساليب الرومان في السيطرة على الدول أنه إذا تنافس على العرش أميران من نفس البيت الحاكم اعترفوا بحق الاثنين، وإن كان أحدهما دون البلوغ انتصروا له، وانتصبوا أوصياء عليه بصفتهم حماة الأرض كلها، لذلك ترسخ هذا الادعاء -كما يقول مونتيسكو- في عقول الناس، فأصبح الشعوب والملوك رعايا لروما من دون أن يعرفوا بأي موجب، كما لو كان يكفي المرء أن يسمع بها ليدين لها بالولاء.
يضيف مونتسكيو سمة أخرى للإمبراطورية الرومانية هي استغلال بعض الألفاظ لخداع الخصوم، فقد تصالحوا مع قرطاج على أن تظل قائمة، ثم خربوها بالكامل بحجة أنهم تعهدوا بالحفاظ عليها كهيئة ونظام لا كمجتمع، فهم يستخدمون الخداع في صياغة المعاهدات والاتفاقيات لتفسيرها طبقاً لأهدافهم.
وكانوا يفاوضون العدو على شروط معتدلة ثم بعد عقد المعاهدة يفرضون شروطاً أخرى مجحفة.
الذهب لروما وحدها
وباستخدام الحروب وسلب ونهب ثروات الشعوب تضخمت ثروة روما، ولم يكن يسمح لأي شعب بامتلاك الذهب والفضة، فكانت كل الدول التي سيطرت عليها الإمبراطورية الرومانية في حالة إفلاس دائم، وأمراء وملوك هذه الدول مجبرون دائماً على تقديم الهدايا الفاخرة للإمبراطور ولقادة جيشه.
وبذلك استحوذ الرومان -كما يقول مونتيسكو- بصفتهم أسياد المعمورة على كل ثرواتها ونهبوا كنوزها.
وبذلك كان الجشع أهم سمات الدولة وإمبراطورها وقادة جيشها، وكانوا حريصين على إفلاس الجميع وإفقارهم، ولذلك يصف مونتسكيو حكام الرومان بأنهم أقل نزاهة من كبار اللصوص الذين يرتكبون أبشع الجرائم، حيث كانوا يقومون بتكديس الثروات بأي وسيلة كانت، وكان أمراء الدول وملوكها يقترفون ألف جريمة ليجودوا على الرومان بكنوز الدنيا خوفاً على عروشهم، وهم يتقبلون من الرومان كل أشكال الإهانة والإذلال؛ لأن أي مخالفة لأوامر الإمبراطور تنتهي بالسجن أو الموت، لم يكن ملوك الدول يجرؤون -كما يقول مونتسكيو- حتى على التحديق في عيون الرومان، ومن هذه حاله من الضعف والانكسار يصبر على كل مذلة ويرتكب كل دنيئة، كسباً لمهلة ولو قصيرة تؤجل الأهوال التي تهدده.
الغرق في الترف
وهكذا سيطرت الإمبراطورية الرومانية على العالم، وقهرت الشعوب وأذلتها، ونهبت ثرواتها، فغرق الرومان في الترف وكدسوا الثروات بينما كانت الشعوب تعاني الجوع والفقر والحرمان.
هذه هي بعض سمات صورة الإمبراطورية الرومانية التي تمكن المسلمون من تحرير البشرية من ظلمها وقهرها، وفتحوا أمام الشعوب في الشام ومصر وأفريقيا أبواب الحياة الكريمة، فهل يتمكن المسلمون من القيام مرة أخرى بتحرير الشعوب من العبودية لغير الله، وإعادة بناء الحضارة الإسلامية التي تشتاق لها البشرية خلال القرن الـ21؟