بينما يرفع وزير التربية والتعليم المصري الجديد رضا حجازي شعار “العودة للمدارس” بعد توليه المسؤولية في أغسطس الماضي، جاءته الرياح بما لا تشتهي السفن مع بدايات العام الدراسي مطلع الشهر الجاري، وسط مؤشرات رسمية تحذر من استمرار عزوف الطلاب عن المدارس والالتحاق بالدروس الخصوصية أو مغادرة التعليم العادي إلى التعليم الأزهري أو الخاص والدولي للقادرين.
وشهدت بدايات العام الدراسي أحداثاً مؤسفة بوفاة تلميذتين نتيجة الإهمال، لكن الوزير حجازي أعاد إطلاق شعاره ميدانياً من محافظة بني سويف جنوب العاصمة القاهرة، مع توعد عناصر الإهمال، حيث أكد أن الوزارة تستهدف عودة الطلاب للمدارس بشكل كامل، واسترجاع دور المدرسة التربوي، واكتشاف المواهب وتنميتها والارتقاء بأداء المعلم وتدريبه.
سرادق عزاء في التعليم الحكومي مع بداية الدراسة.. وإشادة بمعاهد الأزهر
وبحسب خبراء تحدثوا لـ”المجتمع”، فإن نجاح العودة للمدارس يتوقف على مدى التغيير الواقعي الذي يحدث في منظومة التعليم المصري، من حيث جودة التعليم ذاته وكفاءة المعلم ومناسبة المكان للتعليم ومدى ملاءمته ليكون محراباً للعلم، وتفعيل الأبعاد التربوية بشكل إيجابي يصب في صالح التنمية وتجويد السلوكيات ورقي الأخلاق وتعزيز الدور التربوي للمدرس والمدرسة.
تغيير المنظومة
من جانبه، يرى أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة عين شمس د. هاني الأزهري، في حديث لـ”المجتمع”، أن إحداث تغيير في المنظومة التعليمية بمصر بهدف كسب ثقة أولياء الأمور وإعادة الأمور لنصابها يتطلب إحداث نقلة نوعية في رعاية المعلم، وما أسماه “العقيدة التعليمية”، والسياسات العامة للدولة.
حجازي: لا بد من استرجاع دور المدرسة التربوي والارتقاء بالمعلم
ويوضح الأزهري أنه لا عودة للمدارس بغير مواجهة الشعور العام بالتراخي والإهمال لدى كافة عناصر المنظومة الذي يتسرب بالأساس إلى التلاميذ والطلاب، وبالتالي فإن العناية الواجبة بالمعلم وكفاءته التعليمية وحقوقه المالية وقيمته المجتمعية كمربٍّ للأجيال أساس في تصحيح المشهد التعليمي الحالي.
ويضيف أن إصلاح ما أسماه العقيدة التعليمية واجب الوقت، فالتعليم نمطي تقليدي قائم على تخريج موظف لا إنسان قادر على الإبداع والعمل، وبالتالي فالمخرجات كلها تصب في الفشل، وهو ما حدث بالتحديد في تجربة الوزير السابق د. طارق شوقي الذي كان يحرث في الماء، ويريد أن يروج لفكرة الرقمنة و”التابلت”، دون تأهيل كافة العناصر التعليمية لمواكبة تلك التطورات الهائلة وخاصة المعلم والطالب، وذكرنا بجيوش تمتلك أحدث الأسلحة ولكن الجنود لا يرغبون في استخدامها أو لا يبالون بأهميتها أو لا يعرفون طرق استخدامها من الأساس.
ويؤكد الأزهري أن المشكلة الأساسية ليست في وزارة التربية والتعليم ولا في الوزير الجديد المتحمس الذي إذا افترضنا حماسته للتغيير، فإنه سيصطدم في نهاية المطاف بعدم وجود سياسات عامة تساعده في تنفيذ مشروعه.
ويشير إلى أن التعليم الأزهري أفضل حالاً قليلاً عن التعليم العادي، بسبب وجود أبعاد تربوية وأخلاقية، إلا أنه يرصد عن قرب بحكم وجود أولاد له في المعاهد الأزهرية عدم وجود جودة في التعليم بشكل فعال، خاصة أن التراخي من بعض المعلمين ما زال يحتاج إلى رقابة ومحاسبة، فضلاً عن أنه ما زال هناك تدريس للمواد بشكل وصفه بـ”البارد”، الذي لا يعتني بالأبعاد الروحانية بقدر اعتماده على التلقين الجاف، فالعقيدة بنود تحفظ رغم أن الأجدى أن تكون روحاً تسرى في كيان الطلاب تدفعهم إلى زيادة الإيمانيات والروحانيات.
الأزهري: ضرورة إحداث تغيير في المنظومة التعليمية لضمان النجاح
3 أسس للنجاح
ويرى المستشار التعليمي مدير المكتب الماليزي للتطوير التربوي د. علاء حسني، في حديث لـ”المجتمع”، أن العودة للمدارس شعار مهم في ظل العزوف الكبير عن المدارس الظاهر بوضوح في المرحلة الثانوية والاعتماد على الحصول على شهادة من وزارة التربية والتعليم فقط مع اللجوء للمراكز التعليمية الخارجية.
ويوضح بأن هذا الشعار حتى يكون واقعياً يجب أن يقوم على 3 أسس، هي: وجود أبنية تعليمية كافية وذات جودة، والاعتناء المستمر بكفاءة المعلم العلمية وحقوقه ومكانته، والرعاية التربوية العلمية للتلاميذ.
ويشير حسني إلى أن جودة البعد التعليمي والأخلاقي والمكاني في الأزهر الشريف جذب قطاعاً مهماً من المصريين إلى التعليم الأزهري أو التعليم المنزلي، فيما دفع القادرين على الاتجاه إلى مدارس خاصة ودولية بغية الحصول على منتج إيجابي في عقول أطفالهم وسلوكياتهم.
ويؤكد أن المسؤولية الآن تقع على عاتق المسؤولين الذين رفعوا هذا الشعار الجذاب، في تحويله إلى سياسات تعليمية تحمي المدرس وتعزز قدره ومكانته وإمكاناته، وقرارات تنفيذية تستهدف إيجاد مكان تعليمي آمن ولائق وصحي للتعليم، ومنظومة تربوية تحمي التلاميذ من الانحرافات السلوكية والفكرية، وبغير هذا فإن الأزمة ستكون مستمرة والخطر في توابعها شديداً.
ويشير حسني إلى أهمية تغيير الرؤية التعليمية بمصر، من الشعارات إلى إنزالها للواقع، حتى تستطيع وزارة التربية والتعليم أن تكون على قدر طموحات المواطنين ورغباتهم المشروعة في تعليم جيد ومناخ تربوي إيجابي.
حسني: يجب الاعتناء بالأبعاد التربوية وقيمة المعلم وجودة المكان
خطة قومية أولاً
ويرى الخبير الإداري والإستراتيجي المعني بالمشروعات الكبرى إبراهيم فهمي أن عودة المدارس شعار يحتاج إلى آليات تنفيذية واضحة وعقلية إستراتيجية واعية وقرار تنفيذي يضع الهدف في مشروع قومي لمصر، وبدون ذلك سيكون الأمر للاستهلاك الإعلامي وضجيجاً بلا طحين.
ويوضح فهمي أن التعليم الأساسي غير الحكومي يستوعب حوالي 20% من أعداد المواليد بين عامي 2004 و2017 بعدد يقترب من 5 ملايين تلميذ من الطبقة المتوسطة وما فوقها، في حين يمثل التعليم الحكومي الأساسي النسبة الأكبر حوالي 60% بعدد يقترب من 15 مليون تلميذ من أبناء الفقراء والطبقات تحت المتوسطة يتلقون تعليماً لا يرقى بحال لأي جودة تعليمية، حيث يبلغ متوسط كثافة الفصول 80 تلميذاً في أحسن التقديرات، يتلقون نصف أو ثلث دوام دراسي نظراً لعدم وجود مدارس لهم.
ويضيف أن كل مدرسة حكومية تأخذ 8 أضعاف طاقتها الاستيعابية، فبدلاً من 30 تلميذاً في الفصل الواحد بدوام كامل، يتم وضع 80 تلميذاً في 3 فترات تتناوب الجلوس في نفس الفصل لمدة 3 ساعات فقط يومياً بمجموع 240 تلميذاً.
ويشير إلى أن الأسوأ من ذلك هو تسرب حوالي 5 ملايين تلميذ من التعليم، من مواليد نفس الفترة المشار إليها، وبالتالي فلا عودة إلى المدارس بدون خطة قومية عاجلة لبناء 30 ألف مدرسة خلال 3 سنوات، تكفي الأعداد المتزايدة من التلاميذ، خاصة أن هناك استثمارات مفتوحة وغير منضبطة في مجال إنشاء الجامعات من كل الأنواع مع تجاهل أولوية وطنية وهي تحقيق الاكتفاء الذاتي من المدارس.
فهمي: نحتاج إلى خطة قومية أولاً لإعلاء شأن التعليم والمعلمين
ويلفت إلى أنه لا يعقل أن تكون هناك جودة في التعليم وتغير في نمط التدريس في فصول كثافتها مرتفعة، ولا تستوعب طاقات التلميذ والمعلم، ولا يتم صيانة القديم منها وفق خطط أكاديمية علمية تدفع عن مصر سقوط ضحايا جدد كما حدث في وفاة التلميذة في مدرسة بالعجوزة، فضلاً عن عدم تأهيل المدرس بشكل كافٍ بحيث يقدم منتجاً جيداً يجذب التلاميذ للدراسة، في غياب الكفاءة الإدارية المتمثلة في مديري مدارس ليسوا على القدر اللائق من الاحترافية وغير مؤهلين بعلوم الإدارة الحديثة، رغم أن وظيفة مدير مدرسة في الغرب من أعرق الوظائف وأهمها.
وفاة تلميذتين وإصابة 15
ميدانياً، مع بداية العام الدراسي، كانت أول القصيدة “وفاة”، حيث فقدت البلاد تلميذتين خلال 48 ساعة، وهما ملك محمد محمد، ومنة تامر فراج، بالإضافة إلى إصابة 15 حالة أخرى، بسبب إهمال في صيانة المدارس الحكومية؛ ما ألقى بظلال من الحزن والقلق على المشهد التعليمي الحكومي، رغم الإعلان عن بدء تحقيقات إدارية وقضائية.
وأثارت هذه الحادثة غضب الرأي لعام متهماً الحكومة ووزارة التعليم بالتقصير ومطالبات بإقالة الوزير.
طايل: 25% من المدارس المصرية تحتاج إلى ترميم وصيانة
وتداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي صورة لكشف بأسماء طلاب في فصل واحد يصل عددهم إلى 119 طالباً في كثافة عددية كبيرة لا تتناسب مع مساحة الفصل، كما تم فصل العديد من الطلاب في أول يوم دراسي، فضلاً عن سقوط سور آخر بمدرسة قاسم أمين بالإسكندرية دون ضحايا.
من جانبه، أحال الوزير حجازي مديرَ الإدارة التعليمية بكرداسة، ومديرَ مدرسة المعتمدية والمشرفين على المبنى إلى التحقيق بعد سقوط سور على الطالبات ووفاة إحداهن ويقدم التعازي لأسرتها وكذلك الحال بالنسبة لمدرسة العجوزة.
كما وجه الوزير هيئة الأبنية التعليمية بعمل مراجعة مرة أخرى لجميع المباني المدرسية للتأكد من السلامة والأمان للمباني بالمدارس على مستوى الجمهورية.
من جانبها، قالت النيابة العامة: إنه أثناء صعود طالبات مدرسة المعتمدية الإعدادية بكرداسة إلى الفصول انهار سور طوله متران؛ ما أدى لوفاة طالبة و15 إصابة أخرى، كما فتحت تحقيقاً آخر في وفاة طالبة العجوزة.
في سياق تعليقه، قال الخبير التربوي، مدير مركز “الحق في التعليم” عبدالحفيظ طايل: إن ما جرى شيء مفجع ومحزن، بل صادم، لأنه لم يكن في الحسبان، هذه البداية المؤلمة بوفاة طالبات في عمر الزهور، محملاً الوزارة والحكومة المسؤولية.
وأشار إلى أن هناك 25% من المدارس المصرية تحتاج إلى ترميم وصيانة.
وأضاف طايل، في حديثه لـ”المجتمع”: للأسف هناك تمايز شديد في نوعية التعليم المصري، حيث هناك تعليم للفقراء وتعليم للأغنياء وتعليم لصفوة المجتمع وهكذا، وهذا شيء غير مقبول لأنه لا يمكن أن يكون هناك تفرقة بهذا الشكل، لافتاً إلى أن مركز الحق في التعليم الذي يرأسه يعد لفيلم وثائقي في هذا السياق يتناول هذا التمييز الفج.
ولفت إلى ضعف الإنفاق على التعليم الذي يجب أن يكون 4% من الناتج القومي أو 20% من الإنفاق الحكومي، وهذا لا يحدث، حيث إن الإنفاق الحكومي على التعليم لا يتجاوز 9%.
أمين: إجراء حوار وطني شامل حول قضية من أخطر القضايا التي تمس مصر ومستقبلها
مؤتمر وطني للتعليم
أما الكاتب الصحفي المهتم بشؤون التعليم أحمد أمين فيقول: إن ما حدث مأساة كبيرة، وكل عام كنا ننتقد كثافة الفصول أو عجز المدرسين، أما أن نبدأ عاماً دراسياً بدماء فهذا شيء مفجع، لافتاً إلى أنه رغم الاهتمام من جانب الأسرة المصرية بالتعليم، وما نسمعه من تصريحات المسؤولين عن العملية التعليمية ومحاولة النهوض بها، إلا أنه يكاد يكون بها أردأ تعليم، وهنا نرى الاتهامات المتبادلة بين الأسرة وفشل المدرسة والوزارة واتهام الوزارة للأسرة بأنها سبب فساد التعليم بسبب الدروس الخصوصية، وتظل هذه الدائرة المفرغة من الاتهام المتبادل دون اتخاذ خطوات جادة.
ويطالب، في حديثه لـ”المجتمع”، بعقد مؤتمر عام وشامل يجمع بين الجانب المؤسسي متمثلاً في وزارة التعليم وخبراء التعليم والجانب المجتمعي متمثلًا في أولياء الأمور ومؤسسات المجتمع المدني خاصة المهتمة بالتعليم، وإجراء حوار وطني شامل حول قضية من أخطر القضايا التي تمس مصر ومستقبلها، على أن تكون هناك رعاية جادة لهذا الحوار، وتفريغ كل الأفكار والرؤى المطروحة وإعادة صياغتها في توصيات لإصدارها في تشريعات وقوانين ملزمة تعيد للتعليم المصري هيبته وجودته.
وفي المقابل، شهدت العملية التعليمية في جميع المناطق الأزهرية على مستوى الجمهورية انتظاماً، دون حوادث تذكر، وفق بيان رسمي ورصد لمراسل “المجتمع”؛ ما ألقى بسيل من المقارنات بين التعليم العام والمعاهد الأزهرية، خاصة مع رواج صور مبهجة لتلاميذ يرتدون الزي الأزهري (الجلباب والعمامة) في بدايات العام الدراسي، وتلميذات بالحجاب الأبيض الزاهي، وسط تعليقات إيجابية من رواد التواصل الاجتماعي مشيدين بالمظهر الحضاري للتعليم في الأزهر.