في إحدى الزوايا، سينزوي الرئيس المنتهية ولايته جاير ميسياس بولسونارو، الزعيم اليميني المتطرف الذي ارتقى إلى منصب رفيع قبل 4 سنوات بالضبط بعد أن كان عضواً في الكونجرس لما يقرب من عقدين من الزمن.
خصمه لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، عامل سابق، ورئيس لفترتين، قضى وقتًا مثيرًا للجدل في السجن بتهم فساد، وتم إطلاق سراحه لاحقًا لأسباب فنية!
الرجلان يمثلان أقصى حدود السياسة البرازيلية، مع وجود خيار ضئيل أو معدوم لأي ناخب من تيار الوسط.
فلماذا اختار الناخبون -بشكل ضيق– لولا؟ في النهاية، الرجل الذي كان احترامه لمؤسسات البرازيل وشعبها، وحرياتهم ودستور البلاد، هو ما يقف في تناقض صارخ مع بولسونارو الاستبدادي والمتناقض والزئبقي.
بولسونارو شخصية مثيرة للانقسام إلى حد كبير، ويحظى بدعم الجيش والكنيسة الإنجيلية، الذي وفقًا لمن حوله، يتحدث بما يجول بخاطر، معتاد على قول ما يشاء، دون قلق بشأن “الصواب السياسي” وعدمه.
فخلال الفترة التي قضاها في منصبه، بصفته مشرعًا وبعد أن كان رئيسًا لواحدة من أكبر الديمقراطيات على هذا الكوكب، لم يخجل جاير بولسونارو أبدًا من عرض آرائه، وأساء إلى أجزاء كثيرة من المجتمع في الطريق.
هاجم باستمرار النظام الانتخابي وآلات التصويت الإلكترونية الخاصة به، التي ثبت مراراً أنها آمنة، وقد اختار بولسونارو لنفسه نمط دونالد ترمب، مبجلاً الرئيس الأمريكي السابق، حتى إنه فضح عاطفته ذات مرة علنًا قائلاً: “أحبك”، لترمب على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة لعام 2019 في نيويورك.
لويس إيناسيو دا سيلفا، أو لولا كما أصبح معروفًا، عامل سابق، جعل من ضواحي ساو باولو قاعدته السياسية، وسرعان ما ترقى ليصبح زعيمًا نقابيًا بجاذبيته وآرائه القوية جدًا حول حقوق العمال.
في عام 1980، أصبح الاسم المستعار لولا اسمًا قانونيًا، أسس حزب العمال البرازيلي، وهو في حد ذاته ثورة في بلد كانت تحكمه في ذلك الحين دكتاتورية عسكرية متكلسة، لم يكن يُسمح، آنذاك، للناس بانتخاب ممثليهم أو المطالبة بحقوقهم الأساسية أو بأي منها.
في الثمانينيات تغير كل شيء في السياسة البرازيلية، ويرجع الفضل في ذلك جزئيًا إلى لولا وحزبه العمالي، وبسبب ضغوط الناس الذين سئموا عقوداً من وحشية وهمجية وقسوة سلطة الجيش، بدأ الملايين في النزول إلى الشوارع وهم يهتفون “ديريتاس جا” (أو التصويت المباشر الآن).
جمهورية التصويت المباشر
تم تشكيل ما يسمى بـ”الجمهورية الجديدة”، حيث بدأ الجيش في السماح بمزيد من الحقوق الديمقراطية وفي النهاية سمح بالتصويت المباشر من قبل الشعب لأول مرة منذ عام 1964، إيذاناً بانتهاء زمن العسكر.
في هذا السياق، دخل لولا في أول انتخابات رئاسية له في عام 1989، لكنه خسر أمام فرناندو كولور دي ميلو، وهو رجل أبيض من الطبقة العليا وحسن الكلام من أصل ألماني، كانت عائلته تهيمن بالفعل على المشهد السياسي الوطني في البرازيل في ذلك الوقت.
لكن كولور لم يستمر، وعزل في أول فضيحة فساد وطنية كبرى منذ انتهاء الدكتاتورية، حيث اتُّهم بإساءة استخدام المال العام في عام 1992، وتولى نائبه، إيتامار فرانكو، زمام الأمور وتمكن من إعادة الاستقرار إلى الاقتصاد، وإنهاء التضخم الفوضوي الذي أصاب اقتصاد البرازيل بالشلل في الثمانينيات وأوائل التسعينيات.
في عام 1994، ترشح لولا للرئاسة مرة أخرى، حيث واجه فرناندو هنريك كاردوسو، وهو أكاديمي تحول إلى سياسي ابتكر العملة الجديدة “ريال”، بينما كان وزيراً للمالية في عهد إيتامار فرانكو، وخسر لولا مرة أخرى.
وغير فرناندو هنريك كاردوسو قواعد إعادة الانتخاب للرئاسة في عام 1997، وفي عام 1998 كان من المقرر إجراء انتخابات رئاسية أخرى، خاضها لولا مرة أخرى ضد كاردوسو، وخسر مرة أخرى.
لم ينكسر.. بل تعلم وتطور
هنا اتهم لولا وسائل الإعلام بالتكتل ضده بسبب بداياته المتواضعة وخلفيته كزعيم نقابي سابق، فقد خسر 3 محاولات من أصل 3 من أجل الوصول لقصر بلانالتو، قصر الرئاسة البرازيلي.
في عام 2002، أي قبل 20 عامًا، حانت لحظة لولا الكبرى، وفي هذه المرة تمكن لولا من تقديم نفسه كسياسي معتدل، مؤيد للأسواق ولم يعد مجرد زعيم نقابي يساري، واستطاع أن يسحر أباطرة الإعلام والمصرفيين بخطابه الجديد.
كان منافسه الرئيس حاكم ولاية سابق، مملاً للغاية، خوسيه سيرا الذي كان يمثل اليمين، وكانت هذه فرصة لولا دا سيلفا، ومع وجود 53 مليون ناخب خلفه، فاز دا سيلفا أخيرًا بالانتخابات البرازيلية في الجولة الثانية، كانت لحظة تاريخية لأنه لم يكن فقط أول زعيم يساري في البرازيل، ولكنه كان أيضًا الأول بدون تعليم رسمي ومن عائلة فقيرة للغاية، كان الأمر كما لو أن النخبة قد فقدت أخيرًا قبضتها على أعلى منصب في الدولة.
الآن رجل الشعب على قمة السلطة
انتشرت مزاعم للفساد كانت تحت رعايته بسرعة وبشكل كثيف، ومع أنه لم يثبت عليه أي شيء، لكن ضرراً واضحاً لحق بشخصيته السياسية.
ترشح لولا للرئاسة مرة أخرى في عام 2006، وفاز بـ58 مليون صوت في الجولة الثانية ضد جيرالدو ألكمين، حاكم ولاية ممل سابق آخر.
تلا ذلك المزيد من مزاعم الفساد ضد حزب العمال وشركائهم، وتمكن لولا الذي أصبح الآن شخصية عالمية، أشاد به باراك أوباما باعتباره أحد السياسيين الأكثر شعبية على وجه الأرض بطريقة ما في صرف النظر عن أحدث مجموعة من الاتهامات.
ديلما روسف
في عام 2010، تم انتخاب خليفته المختارة ديلما روسف، وهي سجينة سياسية سابقة في عهد الدكتاتورية ووزيرة سابقة في حكومة لولا نفسه، كأول امرأة تتولى منصب الرئاسة، لم تكن ديلما من ذوي الخبرة ولم تكن مؤثرة مثل لولا.
استمرت الادعاءات ضد حزبها ورئيسها السابق؛ ما أدى لعزلتها وانخفاض شعبيتها.
على خلفية رأس المال السياسي الهائل، أعيد انتخاب روسيف في عام 2014، لكن المزيد من مزاعم الفساد بالإضافة إلى الانكماش الاقتصادي العميق أدت إلى إقالة ديلما في عام 2016، وبحلول ذلك الوقت، كان لولا غارقًا في المزيد من الفضائح السياسية “المزعومة”.
سجن لولا دا سيلفا
حوكم لولا وأدين بتهمة الفساد، تم إرساله إلى السجن في عام 2018، لكنه أكد أن القاضي كان فاسدًا ولديه مصالح سياسية في إبعاده عن السباق ضد بولسونارو.
مكافأة القاضي الفاسد
سرعان ما أصبح القاضي سيرجيو مورو وزير عدل بولسونارو بعد انتخابات 2019، التي مُنع لولا من المشاركة فيها؛ لأنه كان وقتها خلف القضبان، استند ترشح جاير بولسونارو للرئاسة إلى وعد بإنهاء الفساد في البلاد، مع وجود لولا في السجن، رشح حزب العمال فرناندو حداد لمواجهة بولسونارو، لكن مصداقية الحزب تحطمت، فاز جاير بولسونارو وتولى السلطة في بداية عام 2019.
لقد تم انتخاب لولا دا سيلفا، وهو سياسي لديه صاحب قصة كفاح غنية، مرة أخرى في عام 2022، وأول شخص يقوم بذلك 3 مرات في تاريخ البلاد، نائب الرئيس المنتخب هو نفسه جيرالدو ألكمين الذي كان خصمه في السباق الرئاسي في عام 2006.
قد يتساءل المرء: لماذا ينتخب البرازيليون مثل هذه الشخصية المثيرة للجدل، بعد أن حوكم وسجن بتهمة الفساد؟
اختار 32 مليون برازيلي عدم التصويت في الجولة الثانية من الاقتراع، هؤلاء الذين امتنعوا عن التصويت، هل لأنهم لم يجدوا أنفسهم ممثلين بأي من المرشحين أو خوفاً من العنف السياسي، فقد أدت الأحداث الأخيرة، المتعلقة بشكل أساسي بحلفاء الرئيس جايير بولسونارو، إلى تأجيل ذهاب الكثير من الناس إلى مراكز الاقتراع، على الرغم من كونها إلزامية بالنسبة للبرازيليين داخل وخارج البلاد.
قضى لولا ما يقرب من 20 شهرًا خلف القضبان وتم إلغاء عقوبته، خرج من السجن في الثامن من نوفمبر 2019 وأعيدت له جميع حقوقه السياسية.
ولذلك فالماضي القريب للزعيم جعله خيارًا غير مستساغ لـ49.1% من الناخبين البرازيليين.
وبرغم كل معاناة لولا، فهو مختلف عن بولسونارو، فولولا دا سيلفا لم يهاجم المؤسسات البرازيلية مرة واحدة، كان دائماً يحافظ على أقصى درجات الاحترام للمحكمة العليا وقضاتها، حتى عندما كان هو نفسه يحاكم.
لم يهاجم المجتمع الأسود أبداً، ذلك المجتمع الذي يشكل غالبية السكان، ودافع مرارًا عن حقوق الأقليات.
ظل لولا طوال حياته السياسية الطويلة يدافع عن حقوق المرأة، ويدافع عن منطقة الأمازون، وتحت قيادته، تمت زيادة حماية أكبر غابة في البرازيل، وتم حماية شعوبها، من السكان الأصليين، بشكل أكبر.
وعلى الرغم من كل أخطائه، لا يمكن إلا أن ندعوه ديمقراطيًا حقيقيًا.
لا شك في أن البرازيليين كان لديهم خيار صعب، لكنهم في النهاية تمسكوا بالرجل الذي أثبت مرارًا وتكرارًا احترامه للدستور بشدة، وما زال يعتقد أن التشكيك فيه ليس خياراً مطروحاً.
___________________
(*) صحفي برازيلي في “يورونيوز”، وكان يغطي السياسة البرازيلية لعقد من الزمان من كل من المملكة المتحدة وفرنسا.
المصدر: “يورونيوز”.