جلس حزيناً مهموماً يبدو الحزن على قسمات وجهه وهو يمسك بتلك الورقة التي كتبها منذ عامين تقريباً، التي وضع اسمه في أسفلها مُوَقّعاً على ما فيها من دَيْن قد أقر به، وها قد اقترب وقت سداده، تفكر ملياً وهو يتنهد كم أصابه هذا الدَّيْن من همّ وألم! وكم سبَّب له من حزن وأرق! وتمنى أن يقضي دَيْنَه هذا الذي غلبه وأقضَّ مضجعه، ورفع يديه داعياً مستعيذاً بالله من غلبة الديَّن، فهكذا هو الدَّيْن كما قيل عنه: إنه همٌّ بالليل ومذلة بالنهار.
للدَّيْن غلبة تستولي على النفس وتعجزها وتقهرها، ليس على مستوى الفرد فحسب، بل على مستوى الأسَر والمجتمعات والدول والشعوب، لا سيما إذا لم يجد المَدِين منهم ما يقضي به دَيْنه إذا حَلّ، ووقف له صاحب الدَّين مطالباً به؛ لذا فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله تعالى من غلبة الدَّيْن، وجاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنه كانَ يَدْعُو في الصَّلَاةِ ويقولُ: «اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بكَ مِنَ المَأْثَمِ والمَغْرَمِ»، فَقالَ له قَائِلٌ: ما أكْثَرَ ما تَسْتَعِيذُ يا رَسولَ اللَّهِ مِنَ المَغْرَمِ! قالَ: «إنَّ الرَّجُلَ إذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، ووَعَدَ فأخْلَفَ» (رواه البخاري).
إن استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من غلبة الدين تشعرنا أن الدَّين همٌّ ثقيل يُستعاذ بالله منه ويُلجأ إليه فيه ليزيحه عن العبد ويعينه وييسر له قضاء دَينه المسبب لهذا الهمّ، كما تشير إلى آثاره على المَدِين ظاهراً وباطناً، وتدعو إلى عدم الاستدانة إلا عند الحاجة والضرورة.
أحوال الناس مع الديون
والدَّيْن وإن كان ثقيلاً على النفس، إلا أنه قد يكون ضرورة؛ حيث تشتد الحاجة إليه في بعض الأوقات مع العوز والفقر، أو عند الحالات الطارئة التي تحتاج مزيداً من المال، وقد خلق الله تعالى عباده ولم يجعلهم على درجة واحدة في المال والحال، لكنه سبحانه حث الغني على الصدقة والعطاء والبذل والإقراض، وجعل ذلك عبادة وقربة إليه، ووعده بالأجر العظيم، فقال سبحانه: (مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) (الحديد: 11)، كما حث الفقير على الاستعفاف والصبر، ومقابلة إحسان مَن يقرضه بإحسانٍ مثله في قضاء الدَّيْن في وقته وأداء الأمانة، كما قال سبحانه: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء: 58).
وللناس مع الديون أحوال شتى، فمنهم مَن يستدين للحاجة والضرورة حين انقطاع السبل به، ووقوع البلاء عليه، ويحتاج بشدة لهذا المال ليقضي به حاجته ويزيل به شدته، وفي مثل هذه الحال فإنه يجب على المسلم أن يعين أخاه في حاجته بالصدقة والعطاء وتنفيس الكرب، أو بإقراضه من ماله تفريجاً لكربته إلى أن ييسر الله له ويرفع عنه الضر الذي مسه، فالمقترِض مُعانٌ إن شاء الله، والمقرِض مأجور بفضل الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن نَفَّسَ عن مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِن كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَن يَسَّرَ علَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عليه في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ..» (رواه مسلم).
ومنهم مَن يستدين من أخيه لمجرد الترفه في المطعم والمشرب والملبس، والتوسع في النفقة وما ليس بضرورة مما لا يضير العبد الصبر عنه؛ فهذا لا عذر له في الاقتراض، وتلزمه القناعة وحسن الرضا بما أعطاه الله، والسعي الحلال في طلب الزيادة في الرزق حتى لا يتعرض للنظر لما في أيدي الناس.
أما الصنف الثالث فهو مَن يستدين لأي سبب كان، لضرورة أو لغير ضرورة، لطاعة أو لمعصية، وهو ينوي في قرارة نفسه عدم الوفاء بهذا الدَّيْن، ويعزم على أكل مال أخيه الذي أحسن إليه وفرّج عنه، وفي مثل هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أيُّما رجلٍ يَدَّينُ دَيناً وهو مجمعٌ ألا يوفِّيه إيَّاه لقي اللهَ سارِقاً» (رواه ابن ماجه).
والصنف الرابع والأخطر، هو مَن يستدين بالربا، فيقع في معصية الله، وقد حرم الربا على المقرِض والمقترِض، حيث يربو مال الدائن ويكثر بغير حق، بينما يتضاعف الدَّيْن على المقترِض فيزداد حاجة فوق حاجته وهمّاً على همّه.
الدَّيْن أمانة
مَن اقترض من أخيه فأقرضه وأمِنه على ماله، فقد صار ذلك الدَّيْن أمانة في ذمته، وحفاظاً على هذه الأمانة من الضياع أو التغيير أو الجحود أو النسيان؛ فإن على الدائن والمَدِين أن يكتبا هذا الدَّيْن، ويُشهِدا عليه إذا تطلب الأمر ذلك؛ فقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) (البقرة: 282).
ومما يؤكد خطورة الدَّيْن أن أطول آية في القرآن الكريم هي آية الدَّيْن، ففيها ما يحفظ الحقوق ويرغب في أدائها، أما إذا لم يُكتب الدَّيْن فعلى المَدِين أن يتقي الله ويسارع بردّ الحق إلى صاحبه متى حلّ وقت الأداء، وقد قال الله تعالى: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ) (البقرة: 283)، وليسارع بأداء دَيْنه متى استطاع ذلك، ولا يقصِّر، فإنه إن قصَّر أو نوى عدم الوفاء فإن الله تعالى يوفي صاحب الحق حقه يوم القيامة من حسنات مَن قصَّر ولم يفِ بوعده، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نفسُ المؤمنِ معلَّقةٌ بِدَيْنه حتَّى يُقضَى عنهُ» (رواه الترمذي)، وقال: «مَنْ ماتَ وعليْهِ دِينارٌ أوْ دِرْهَمٌ، قُضِيَ من حسناتِه، ليْسَ ثَمَّ دِينارٌ ولا دِرهَمٌ» (رواه ابن ماجه)، لذا كان على الورثة إن كان على ميتهم دَيْن أن يسارعوا بقضاء دَيْنه من ماله الذي تركه أو من مالهم؛ حتى تبرأ ذمته ويعفو الله عنه.
أبشر أيها المُقرِض
أبشر بخير من الله لك في الدنيا والآخرة، فقد فرجتَ كرب أخيك وأقرضتَه حاجته دون منٍّ منك ولا زيادة مِن نفعٍ أو رِبا، بل وصبرت عليه، وأنظرته امتثالاً لقول الله تعالى: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) (البقرة: 280).
أبشر بالنجاة والكرامة يوم القيامة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، فَلْيُنَفِّسْ عن مُعْسِرٍ، أَوْ يَضَعْ عنْه» (رواه مسلم)، وقال: «مَن أَنْظَرَ مُعْسِراً أَوْ وَضَعَ عنْه، أَظَلَّهُ اللَّهُ في ظِلِّهِ» (رواه مسلم).
أبشر بمضاعفة الأجر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما مِن مُسلِمٍ يُقرِضُ مسلمًا قرضًا مرَّتينِ إلَّا كانَ كصدقتِها مرَّةً» (رواه ابن ماجه)، وقال: «من أنظرَ معسراً كانَ لَه بِكلِّ يومٍ صدقةٌ ومَن أنظرَه بعدَ حلِّهِ كانَ لَه مثله في كلِّ يومٍ صدقةٌ» (رواه ابن ماجه).