في الحلقة الماضية، تحدثنا عن فقه المآلات؛ معناه لغة واصطلاحاً، وبيان أهميته، واقتصرنا في علاقاته بألوان الفقه «الحضاري» على بيان علاقته بالأحكام الوضعية.
وفي هذه الحلقة نستأنف الحديث ونستكمله عن هذه العلاقات بينه وبين ألوان الفقه الحضاري؛ حيث سنتحدث عن علاقة فقه المآلات بفقه المقاصد، وبفقه الموازنات والأولويات، وبفقه الواقع، وبيان كيف يكون الاجتهاد والفقه «فقهاً حضارياً»، على النحو الآتي:
رابعاً: علاقة المآلات بفقه المقاصد:
مقاصد الشريعة هي غاياتها التي نزلت الشريعة لتحقيقها من أجل مصلحة العباد في العاجل والآجل جميعاً، وعرفها علال الفاسي بقوله: «المراد بمقاصد الشريعة: الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها»(1)، وهذا التعريف يجمع بين المقاصد الكلية بقوله: «الغاية منها»، والمقاصد الجزئية بقوله: «والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها».
وإن لفقه المآلات علاقة عضوية بفقه المقاصد، وقد سبق إيراد عبارة الشاطبي التي يقول فيها عن المآلات: إنه «مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق محمود الغب، جار على مقاصد الشريعة»، وهذا يشير إلى أن المآلات جارية على مقاصد الشريعة، ولكن ما وجه كون المآلات جارية على مقاصد الشريعة؟!
إن الذي يشغل الفقيه بالدرجة الأولى أثناء تنزيله الأحكام الشرعية من فقه النص إلى ساحات الواقع هو أنه يتحرى تحقيق هذا التنزيل لمقاصد الأحكام الشرعية في الواقع، وهذا لن يكون إلا برعاية الأحكام الوضعية؛ فلن يتحقق مقصود الحكم الشرعي إلا بتنزيله، ولن يتم تنزيله إلا إذا وجدت أسبابه وتحققت شروطه وانتفت موانعه، وإذا لم يتنزل فلا يمكن ترتُّبُ مقاصده بتنزيله، ومن هنا تبدو العلاقة عضوية وقوية بينهما.
خامساً: علاقة المآلات بفقه الموازنات وفقه الأولويات:
وإذا كانت المآلات جزءاً عضوياً في فقه المقاصد، فإن الموازنات والأولويات -بدورهما- جزءٌ لا يتجزأ من فقه المآلات، بمعنى أننا لا يمكننا تحديد المآلات إلا إذا قمنا بالموازنة بين المصالح والمفاسد، وبين المصالح والمصالح، وبين المفاسد والمفاسد، وتحديد مراتبها وأولوياتها، والموازنتان الأخيرتان –أعني بين المصالح والمصالح، والمفاسد والمفاسد– من أدق ما يمكن لعمل الفقيه والمجتهد، فالإمام ابن تيمية يقول: «ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين وينشد:
إن اللبيب إذا بدا من جسمه مرضان مختلفان داوى الأخطرا
قال: وهذا ثابت في سائر الأمور؛ فإن الطبيب مثلاً يحتاج إلى تقوية القوة ودفع المرض؛ والفساد أداة تزيدهما معاً؛ فإنه يرجح عند وفور القوة تركه إضعافاً للمرض، وعند ضعف القوة فعله لأن منفعة إبقاء القوة والمرض أولى من إذهابهما جميعاً؛ فإن ذهاب القوة مستلزم للهلاك، ولهذا استقر في عقول الناس أنه عند الجدب يكون نزول المطر لهم رحمة، وإن كان يتقوى بما ينبته أقوام على ظلمهم، لكن عدمه أشد ضرراً عليهم»(2).
ومن قبله يقرر سلطان العلماء العز بن عبدالسلام أن «تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن، وأن تقديم المصالح الراجحة على المرجوحة محمود حسن، وأن درء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حسن، واتفق الحكماء على ذلك»(3).
فالظاهر هنا أن الموازنات خطوة أساسية سابقة على تحديد الأولويات، بل هي جزء منها لا تتجزأ عنها، فلا يمكن تحديد الأولويات إلا بعد إجراء الموازنات، ولا يمكن الوصول للمآلات إلا بعد إجراء هذه الموازنات، بين ما هو للحال وما هو للاستقبال، وبين ما هو ضروري وما هو تحسيني، وبين ما هو قطعي وما هو ظني، وبين المصالح بعضها وبعض، والمفاسد بعضها وبعض.
سادساً: علاقة المآلات بفقه الواقع:
فقه الواقع هو علم يُعنى بمعرفة أحوال الناس والأمم من المسلمين وغير المسلمين؛ والوقوف على حقائق تلك الأحوال، وما بين هذه الأمم من مواضع الالتقاء والافتراق؛ وما يتباين من مصالحها وما يلتقي، وما يطرأ على ذلك من التغيير والتبديل، وما يؤثر في ذلك من العوامل والقوى؛ والعقائد والمناهج؛ والسياسات والأفكار، والأهداف والغايات، بغية التوصل بذلك إلى سبل وقاية الأمة وحمايتها من كيد عدوها، والوقوف على الأسباب التي يتعين الأخذ بها؛ لنهوضها في حاضرها ورقيها في مستقبلها؛ على الوجه الذي يقتضيه كونها خير أمة أخرجت للناس(4).
وفقه الواقع هو قسيم عملية الاجتهاد مع فقه النص؛ إذ يقول الإمام ابن القيم: «ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً، والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع»(5).
والإحاطة بفقه الواقع أصبحت أمراً معقداً في عصرنا ومتشابكاً تشابكاً كبيراً؛ إذ تحتاج لأمور متنوعة، ولهذا يقول د. نور الدين الخادمي: «إن فقه الواقع لا يتحصل إلا بتوفر مجموعة من الاختصاصات في شُعب المعرفة، تحقق التكامل والعقل الجماعي، حتى إننا لنعتقد أن الفقه الصحيح للنص في الكتاب والسُّنة، يقتضي فهم الواقع محل النص في ضوء الاستطاعات المتوفرة.. وفي تقديرنا أن هذه هي المعادلة المطلوبة اليوم لقضية الاجتهاد، حتى يسترد العقل عافيته، والاجتهاد دوره، والوحي مرجعيته، ويقوَّم الواقع بقيم الدين، فهماً وتنزيلاً»(6).
والواقع أن فقه الواقع هو الأرضية والحاضنة لما سوى الأحكام الشرعية وفقه نصوصها، ومن ثم تعلقه ملازم لكل هذه الأنواع من الفقه: فقه الأحكام الوضعية، وفقه الموازنات، وفقه الأولويات، وفقه المآلات؛ فهو قسيم فقه النص في عملية الاجتهاد، ومن ثم فإن الفقه والاجتهاد والفتوى لا يمكن أن يكون لها حضور إلا بتشابك هذه العلاقات، وتعاضد هذه الألوان من الفقه وإعمالها واعتبارها، وبها يكون الاجتهاد والفقه «حضارياً»؛ أي له «تأثير واضح»، و»توجيه قوي»، و»حضور فاعل» في حياة الناس.
_________________________________
(1) مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها: 7. طبعة دار الغرب الإسلامي.
(2) مجموع الفتاوى: 20/54. مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية. السعودية. 1416هـ/1995م.
(3) قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 1/ 5. تحقيق: طه عبدالرؤوف سعد. مكتبة الكليات الأزهرية. القاهرة.
(4) هذا التعريف وضعه الشيخ خالد بن فتحي بن خالد الأغا، في كتاب «زهر الخمائل في مسائل النوازل»: 20/ 1-2. ضمن كتب المكتبة الشاملة. بدون بيانات.
(5) إعلام الموقعين عن رب العالمين: 1/ 69. تحقيق: محمد عبدالسلام إبراهيم. دار الكتب العلمية. بيروت. الطبعة الأولى. 1411هـ – 1991م.
(6) الاجتهاد المقاصدي، ضوابطه ومجالاته، من مقدمة الجزء الثاني. طبعته وزارة الأوقاف القطرية. سلسلة كتاب الأمة.