يستقبل العالم سنة جديدة. ويصف ملاحظون عام 2023م بعام الأزمات عالمياً وأوروبياً على وجه التحديد. وتعود جل مشاكل الكيان الأوروبي إلى مطامع الدب الروسي في التمدد من جديد في القارة الأوروبية بخلفية الحنين إلى أيام الاتحاد السوفياتي، بعد 34 سنة على سقوط جدار برلين وتفكك المنظومة السوفياتية الشيوعية.
فإذا كان العالم يشترك مع أوروبا في آثار الأزمة الصحية نتيجة وباء كورونا، كما يشترك معها في آثار الحرب على كورونا، إلا أن تداعيات الحرب أكثر عمقا على القارة الاوروبية بسبب العامل الجغرافي والتماس مع الحدود الروسية شرقاً.
ثم إن منطقة البلقان وسط أوروبا مهددة بعودة التوتر والصراع بسبب النعرة العنصرية الشوفينية لدى الصرب (حلفاء روسيا) تجاه بقية القوميات وخاصة ذات الانتماء الإسلامي، يضاف إلى ذلك توتر العلاقات اليونانية التركية، في الوقت الذي تعود فيه تركيا إلى واجهة الوضع الإقليمي.
أزمة طاقة غير مسبوقة في أوروبا
فالحرب تدور على أراضيها بحجم لم يسبق له مثيل منذ الحرب العالمية الثانية. ولئن تسببت الحرب في أوكرانيا في مخاطر على الامن الغذائي العالمي، فإن أوروبا استطاعت الحفاظ على أقدار كبرى من الامن الغذائي، لكن التحدي الكبير على مستوى الطاقة.
وتشهد أوروبا أزمة طاقة غير مسبوقة، مما أدى إلى تضخم متسارع وتراجع القدرة التنافسية. كما أظهرت أزمة الطاقة في أوروبا اعتمادها على الوقود الأحفوري والمورّدين غير الموثوق بهم. من المرجح أن يشهد شتاء 2022-2023 انقطاعات ونقصًا في التيار الكهربائي. قد يكون شتاء 2023-2024 أكثر صعوبة ، خاصة إذا تعافى الاقتصاد الصيني، حيث ستكون الطاقة الإنتاجية أقل من الطلب. لكن على المدى المتوسط ، تلتزم أوروبا بإنتاج طاقة خالية من الكربون، وإعادة الاستثمار في سياستها النووية في محاولة للاستغناء تدريجيا عن توريد الطاقة من الخارج.
واستغل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين أزمة الطاقة في أوروبا لتعميق الازمة عبر مرسوم عقابي يفيد بمنع توريد النفط والغاز الروسي تجاه الدول التي تضع سقف أسعار لكل منتجات الدولة الروسية.
وأوضح المرسوم، أن هذا القرار جاء رداً على الإجراءات التي تتخذها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية والمنظمات الدولية، المخالفة للقانون الدولي، إذ يعتبر القرار من أجل حماية المصالح الوطنية لـموسكو.
بيد أن المرسوم تضمن بندا يتضمن إمكانية استثناء الدول الرافضة لوضع سقف اسعار الغاز الروسي، في إشارة إلى المجر وهي عضو في الاتحاد الاوروبي التي تبدي تحفظات على هذا التوجه، وهي الثغرة التي يريد بوتين اختراقها لتفريق الصف الاوروبي.
وكان الرئيس الروسي قد وقّع في أغسطس 2022 مرسومًا يمنع المستثمرين من “الدول غير الصديقة” من بيع الأسهم في مشروعات الطاقة الرئيسة والبنوك حتى نهاية العام.
ويبدو أن أوروبا تريد الاسراع بوضع حد للحرب التي تضررت منها كثيرا. وهناك سعي للدخول مرحلة التفاوض الاوكراتي الروسي من أجل إيجاد مخرج للحرب. وهناك أيضا حديث عن نهاية فبراير (ذكرى اندلاع الحرب في أوكرانيا) كتوقيت مناسب لهذه المفاوضات. لكن الامر لم يتجاوز بعد مرحلة التمني. إذ ان السياق الحالي للوضع الميداني العسكري يسير نحو التصعيد وليس التهدئة. وهناك تصريحات تهدد بمخاطر نشوب حرب عالمية ثالثة والانجرار إلى استخدام السلاح النووي. وقد يكون هذا التصعيد وسيلة لكل طرف من أجل فرض شروطه في الهدنة.
عودة التوتر إلى منطقة البلقان
وتزامنا مع الحرب في أوكرانيا، عادت منطقة البلقان وسط أوروبا إلى التوتر المهدد بالصراع بسبب النعرة العنصرية الشوفينية لدى الصرب (حلفاء روسيا) تجاه بقية القوميات وخاصة ذات الانتماء الإسلامي. وعودة التوتر دليل على أن النعرة القومية الشوفينية ما زالت حاضرة وبقوة. وأبرز مظاهرها التعصب الصربي الذي أفرز حربا كارثية في تسعينات القرن العشرين تحت مسمى “التطهير العرقي” لسكان البوسنة والهرسك ذوي الاغلبية المسلمة.
وفي الواقع، كانت حرب تصفية للوجود الإسلامي في قلب القارة الاوروبية. وأسفرت عن تدمير لتجربة التعايش المشترك الرائدة في سراييفو بقيادة الرئيس الراحل عزت بيغوفيتش رئيس البوسنة في ذلك الوقت، علاوة على ارتكاب مجازر بشرية وإبادة جماعية وأخطرها مذبحة سربرنيتشا التي نفذتها وحدات من جيش جمهورية صرب البوسنة تحت قيادة راتكو ملاديتش في الفترة من 11 إلى 22 يوليو 1995 والتي ذهب ضحيتها أكثر من 8 آلاف من المسلمين البوشناق مُعظمُهم من الرجال والشيوخ والأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين 12 و77 سنة. وكانت روسيا قد استخدمت حق النقض في مجلس الامن لمنه الاقرار بالإبادة الجماعية.
واليوم، تشهد منطقة البلقان تجدد التوتر في العلاقات بين وصربيا الارثودكسية وكوسوفو ذات الاغلبية المسلمة من أصول ألبانية. وبعد 15 عاماً من إعلان كوسوفو استقلالها عن صربيا سنة 2008 ، ما زال نحو 50 ألف صربي يعيشون في شمال البلاد ويستخدمون اللوحات المعدنية والوثائق الصربية رافضين الاعتراف بالمؤسسات التابعة للعاصمة بريشتينا. علما بأن أكثر من مائة دولة تعترف بكوسوفو دولة مستقلة ليس من بينها صربيا وروسيا.
الحاجة إلى تركيا القوة الاقليمية المتصاعدة
يضاف إلى ذلك توتر العلاقات اليونانية التركية. الإشكال هنا أن اليونان الارثودكسية العضو في الاتحاد الاوروبي لها تحالف قوي مع روسيا. وهي ورقة أخرى يوظفها الكرملين لتحقيق مصالحه والضغط على أوروبا.
أما تركيا العضو في حلف الشمال الاطلسي، فهي الوسيط القوي لتيسير الوصول إلى تفاوض في الحرب على أوكرانيا. لذا فإن الكيان الاوروبي بقدر تخوفه من تركيا هذه القوة الاقليمية المتصاعدة، بقدر ما يحتاج إلى مجاملتها لأغراض استراتيجية. في الوقت الذي تستقبل تركيا أيضا سنة حاسمة بالمعنى الايجابي على المستوى والسياسي والاستراتيجي بعد قرن على سقوط الدولة العثمانية. بما يعزز دورها الاقليمي بعد التخلص من إملاءات القوى الكبرى التي فرضت قيودا على تركيا الحديثة يصل بعضها إلى قرن من الزمن.
هذه بعض التحديات التي تواجهها أوروبا مع مطلع عام جديد سيشهد أحداثا بمستوى توتر العلاقة بين روسيا والغرب، في ظل توازنات سياسية اقليمية ودولية متقلبة.