أضحت التكنولوجيا الرقمية جزءاً أساسياً من واقعنا المعاصر بما تحمله من خير وما قد تنفثه من سموم؛ لعل الابتزاز الإلكتروني واحد من أخطرها.. وهنا تبدو العلاقة بين اغتراب الأسرة وتفككها ووقوع أحد أفرادها ضحية للابتزاز الإلكتروني جدلية.
فهل كان الاغتراب داخل الأسرة الطريق السريع الذي أوقع الضحية في براثن المبتز، أم كان الانبهار بالتكنولوجيا الرقمية وما خلقته من حاجات مزيفة هو ما كرس حالة الاغتراب والتشظي؟
بالتأكيد، لم يتعرض كل مندمج في الواقع الافتراضي لعملية ابتزاز إلكتروني، إلا أن المؤشرات تؤكد أن الجريمة في تصاعد مذهل؛ فآلاف البلاغات لدى الجهات المختصة هي قمة جبل الجليد الذي يرزح تحته آلاف الضحايا، نصفهم على الأقل من الأطفال.
تبدو العلاقة بين المستغل والضحية في كثير من الأحيان علاقة وثيقة، مكّنت المستغل من معرفة كثير من التفاصيل الحياتية للضحية، واستطاع فيها كسب ثقتها حتى استطاع الحصول على صور أو حتى مقاطع فيديو ذات خصوصية.
ومع أن الابتزاز قد يقع بعد سرقة الهاتف أو بعد اختراق بياناته أو حتى عبر تزييف صور للضحية أو بالضغط النفسي عليها، فإنني أتحدث هنا عن معظم حالات الابتزاز التي تبدو الضحية فيها على معرفة وثيقة بالمبتز لماذا تحدث؟
لماذا وكيف يثق طفل في آخر (سواء كان هذا الآخر طفلاً مبتزاً أو بالغاً) ويرسل صوراً خاصة له أو لأحد أفراد أسرته؟
ضعف البنية الداخلية للأسرة ووجود ثغرات فيها هي المتهم الرئيس في ذلك؛ فكثير من الضحايا لم يجدوا من ينصت إليهم.. من يتفهمهم.. من يقدر الضغوط التي يعايشونها.. من يمنحهم التقدير الكافي.. فتكون الضحية فريسة سهلة للمبتز الذي يتسلل من تلك الثغرات النفسية ويقوم بإشباع تلك الاحتياجات.
فالطفل الذي يمضي ساعات طويلة متصلاً بهذا العالم الافتراضي دون أن يهتم أحد بمتابعة ما يقوم به من أنشطة، ولا أي ألعاب يلعب؟ وما المطالب التي تطلب منه في تلك الألعاب، ولا بمعرفة مع من يتواصل؟ بل ربما يلقى سلوكه ترحيباً داخل الأسرة؛ لأنه يجلس هادئاً لا يثير الشغب، هذا الطفل هو ضحية مستهدفة من قبل المبتزين.
نفس الأمر ينطبق على المراهقين وعلى الرجال والنساء؛ فكل من يعاني من عدم إشباع حاجاته داخل الأسرة (مع اختلاف وتنوع تلك الحاجات) قد يلجأ للخيار السهل ألا وهو الارتماء في أحضان الواقع الافتراضي المتاح دائماً كبديل مشوَّه، بينما يكون خيار المجاهدة حتى تشبع هذه الحاجات بطريقة سوية هو طوق النجاة الحقيقي.
بتكرار السلوك يتحول الإشباع المزيف لإدمان إلكتروني تتصاعد معه احتمالية الابتزاز.
الكثير من الآثار المدمرة تترتب على وقوع فرد من أفراد الأسرة ضحية للابتزاز الإلكتروني؛ فتنعزل الضحية ويصيبها الاكتئاب؛ ما يعني أن تهمل ذاتها وتهمل الواجبات الملقاة على عاتقها، ولأن الضحية غالباً ما تعاني من غياب البيئة الأسرية الداعمة فيحدث في كثير من الأحيان أن يكون خوف الضحية من رد فعل الأسرة هو المحرك الأول للوقوع في تحقيق مطالب المبتزين؛ حيث إنها تحاول مواجهة المبتز وحيدة فتنتهي تلك المواجهة بطريقة بائسة قد تصل حد الانتحار.
دعم الأسرة
يمكننا إذن القول: إن وجود أسرة فاعلة وداعمة هي حجر الأساس في مواجهة جرائم الابتزاز الإلكتروني، وأعني بذلك تلك الأسرة التي يشعر كل فرد فيها بالإشباع ويجد من ينصت له ويمنحه التقدير ويستطيع فيها البوح بما يجيش في صدره من انفعالات دون أن يلقى نقداً لاذعاً أو استهانة بمشاعره، بل إن الأسرة الرشيدة هي التي تبحث وراء الكلمات وتحاول بكل الطرق اللطيفة أن تخرج الصامت والمتباعد من قوقعته، ثم أهم ما يميز تلك الأسرة أنها تمثل بيئة آمنة لأفرادها فيستطيع من أخطأ أن يعترف بالخطأ دون أن يتم تحطيمه، ويستطيع من وقع في مخالب الابتزاز أن يطلب الدعم وهو يوقن أنه سيجده.
تحتاج الفتيات بشكل أكبر إلى الحصول على هذا الدعم الأسري خاصة في البيئات الريفية والمغلقة حيث تسود التقاليد والأعراف التي لا تساوي بين الفتى والفتاة في الخطأ كما أرست ذلك مبادئ الشريعة.
الدور المجتمعي
الدور المجتمعي الإيجابي هو المكمل لدور الأسرة والداعم له؛ فالحاجة ماسة لإرساء قيم التعاطف والمواجدة والمواساة والستر داخل مجتمعاتنا؛ فمن الممكن جداً في عصر السماوات المفتوحة أن يصبح فرد من أفراد أي أسرة ضحية للابتزاز الإلكتروني، لكن وجود مجتمع واع هو حائط الصد الذي يردع المبتز، ويحمي الضحية؛ فالنصائح التقليدية التي تقدم للضحية من حتمية عدم الانصياع لمطالب المبتز سواء كانت مالية أو غير ذلك وإبلاغ الجهات المختصة بتفاصيل الابتزاز لا تحقق النتائج المرجوة ما دام تم وصم الضحية سواء بنشر أمور حقيقية أو حتى مزيفة.
وهذه بعض نقاط مهمة لا بد من إرسائها في المجتمع:
– عدم مشاركة أي صور أو فيديوهات خاصة بآخرين واعتبار ذلك من إشاعة الفاحشة.
– عدم الخوض في الأعراض والتنديد بالخائضين لأنهم يرتكبون كبيرة من كبائر الذنوب.
– إعلاء قيمة مسؤولية الكلمة وتحميل المحرضين النتائج التي تترتب على كلماتهم السامة والمدمرة.
– المحاولة الجادة للتعاطف مع ضحية الابتزاز الإلكتروني حتى لو كان المنسوب له حقيقياً، فما يحدث هو اعتداء على حياته الخاصة، وكل إنسان معرض للذنب لولا ستر الله تعالى.
– عدم الوقوع في الغيبة وتتبع حقيقة الحدث، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا تغتابوا المسلمين، ولا تتَّبِعوا عوراتِهم؛ فإنَّه من تتبَّع عورة أخيه المسلم تتبَّع الله عورتَه، ومَنْ تتبَّع اللهُ عورتَه يفضحه ولو في جوف بيته» (صحيح الجامع).
– لا بد من إنشاء مؤسسات أهلية تعمل على نشر ثقافة التعامل الآمن مع الواقع الافتراضي وتوعية المجتمع بأخطار الابتزاز الإلكتروني وترفع من وعي المجتمع خاصة فيما يتعلق بأسلوب التعامل مع الضحايا، كما تقدم الدعم النفسي للضحايا حتى يتعافوا من آثار الابتزاز.
– لا بد من العناية بشكل خاص بالأطفال وحمايتهم من جريمة الابتزاز الإلكتروني؛ لأنهم الحلقة الأضعف والأكثر براءة التي يسهل استغلالها، فبالإضافة للدور المحوري للأسرة لا بد من تفعيل دور المدرسة، وأن تتضمن المناهج الدراسية تقنيات المبتزين للإيقاع بالطفل وماذا يفعل الطفل إذا وقع بالفعل ضحية لمثل هذه الجريمة.