تهُب نسمات رمضان حاملة معها ذكريات وأحداثاً وحكايات وقعت في الشهر الكريم، وتجلب معها سِيرًا لرجالٍ عظماء غيروا التاريخ، ورسموا بدمائهم آفاقًا جديدة وسبلًا يسترشد بها اللاحقون من بعدهم.
ومن هؤلاء زعيمٌ أفريقي سقط شهيدًا في 3 رمضان 1307هـ، بعدما أنهك قوات الاحتلال الفرنسي، وكبّد فرنسا خسائر فادحة، وأقام مملكة إسلامية في منطقة تشاد لا يزال صداها إلى يومنا هذا.
وفي أعقاب تراجع الوجود الفرنسي من القارة السمراء في الوقت الراهن، ورفض كثير من القادة الأفارقة الاستعمار والتبعية تحت مسمى الشراكة، نذكر في هذا التقرير قصة البطل الأفريقي رابح بن الزبير الذي خلَّد أسطورة المقاومة في ربوع القارة الأفريقية.
نابليون أفريقيا
تعتبر حركة المجاهد الكبير رابح بن فضل الله من أهم الحركات الإسلامية في أفريقيا، وتكمُن أهميتها في مقاومة الاستعمار، الذي بدأ يجتاح أفريقيا مع بدايات القرن الثامن عشر، خاصة بعد مؤتمر برلين عام 1840م؛ الذي قرَّرت فيه الدول الأوروبية تقاسُم قارة أفريقيا فيما بينها، ليصبح القائد رابح نموذجًا حيًّا أمام الشعوب الأفريقية المتطلِّعة للتحرر والانعتاق من الاستعمار الغربي.
وكانت منطقة تشاد مِن نصيب المستعمِر الفَرَنسي، الذي شرع في بسط سيطرته على الشعب التشادي المسلم، وكان رابح فضل الله زعيمًا سودانيًا تمكن من إقامة إمبراطورية قوية غرب بحيرة تشاد وعاصمتها مدينة ديكوا، التي تعرف اليوم بدولة تشاد.
ويُعرف رابح فضل الله أيضًا بـ«رابح بن الزبير»، و«نابليون أفريقيا»، وقد ولد في عام 1846م، في عائلة عربية في حلفاية الملوك بإحدى ضواحي مدينة الخرطوم السودانية، وعند بلوغه سن العشرين سافَر إلى القاهرة، والتحق بجيش الخديوي إسماعيل في مصر، إلا أنه تعرض لإصابة في إحدى المعارك التي كان يخوضها الجيش المصري؛ مما حال دون استمراره في العمل العسكري، فآثر العودة إلى بلاده.
تحت لواء الزبير
على الجهة الأخرى، كان هناك رجل من شمال السودان يُسمى الزبير رحمت العباسي، الذي اتجه إلى جنوب السودان لكسب المال، وعمل هناك مع كبار التجار وسرعان ما أصبح ذا مكانةٍ كبيرة في جنوب السودان، وهو ما أهّله لمصاهرة الملك تكمة، ملك نيام نيام، وهي منطقة واقعة بين جنوب السودان والكونغو.
وبذلك راجت تجارة الزبير، وتوسعت دائرة نفوذه، واجتذب قلوب الناس حتى دخل الكثير في خدمته، وكان من بينهم الشاب رابح فضل الله.
إلا أن مركز الزبير ونمو زعامته أخاف صهره ملك نيام نيام نفسه، وملوك القبائل المجاورة؛ فمضوا يتربصون بتجارته، ما دفع الزبير للتفكير في أن يتخذ لنفسه جيشًا لحماية تجارته ونفوذه.
وكوَّن الزبير جيشًا قوامه 500 رجل، ضَمِنَ ولاءهم المطلق ثم زوَّدهم بالسلاح، وبهذا الجيش حارب الزبير أقوى ملوك القبائل في تلك المنطقة، وعليه استتب له الحكم في منطقة حوض بحر الغزال ودان له باقي الملوك بالطاعة، وسرعان ما نما حجم جيش الزبير من رجال القبائل التابعة له، وقد أظهر رابح في خدمة جيش الزبير موهبة حربية لفتت الأنظار.
وكان رابح لا يزال شابًا عمره 23 سنة، ولكنّ قدراته الفذة لفتت له أنظار الزبير نفسه، وأصبح له مكانة خاصة في قلبه، حتى احتل مكان الابن تمامًا، فقام الزبير بإعلان تبنّيه لهذا الشاب المميز، وضمه إلى أسرته، وحمل اسمه واشتهر به، فسمي «رابح بن الزبير».
وفي أثناء زيارة الزبير للقاهرة عام 1876م، مع عدد كبير من جنوده وحاشيته، قام الخديوي إسماعيل بمنعه من المغادرة والعودة إلى بلاده، وأجبره على الإقامة في القاهرة، وكان غرض إسماعيل أن يحولَ بين الزبير ومناطق نفوذه؛ خشيةً مِن توسعه الكبير في تلك البلاد البعيدة عن مركز سلطته.
وعليه تعرَّضت قوات الزبير إلى التشتت والتشرذم بدون قائدٍ يهديها السبيل، وكان رابح على رأس إحدى هذه المجموعات المتفرِّقة والمتناثرة، وكان ذلك إيذانًا بحقبة جديدة وعهدٍ جديد في حياة رابح.
مملكة رابح
بعدما استعمرت بريطانيا مصر عام 1882م، تطلّعت لحكم السودان، فنشبت عدة مؤامرات ضد جيش الزبير، وقد تعاون كل من رابح وسليمان بن الزبير في معركتين ضد الاحتلال الإنجليزي، نتج عنهما قتل سليمان غدرًا على يد الاحتلال، بعد أن قرَّر الاستسلام تلبيةً لرغبة أبيه المحتجز في القاهرة.
أمّا رابح فقد عارض قرار الاستسلام وانفصل بجزءٍ صغير من الجيش، واتجه إلى الجنوب بادئًا لحياة جديدة، حيث جمع عددًا من قوات جيش الزبير يقدر تعدادهم بألف مقاتل ومعهم أربعمائة بندقية فقط، فألزمهم بمبايعته والخروج معه ليكوّنوا جيشا قويًا يستطيع التصدي للاستعمار.
فاتجه رابح نحو مناطق دارفور فبايعه عدد من الأهالي هناك، وسيطر بكل سهولة على أغلب مناطق جنوب دارفور، ثم بدأ في التوسع نحو مملكة “وداي” فسيطر على أغلب مدنها الشرقية مثل دار سيلا ودار رونقا ودار كوتي وكريش، ومن ثم اتخذ مدينة دكوا عاصمة له.
وفي خلال 3 سنوات فقط استطاع رابح السيطرة على 40 إمارة كانت موجودة في تشاد والكاميرون واستطاع ضمها تحت سيطرته وكانت الضربة الكبرى هي سيطرته على مملكة برنو بعد تخلصه من سلطنة وداي.
ومضى رابح يُخضع القبائل في منطقته إلى إمرته حتى عام 1885م، ثم ظهر محمد أحمد المهدي وقواته في السودان، مطالبةً بالتحرر الوطني، فيما عرف باسم «الثورة المهدية»، وقام المهدي بدعوة رابح للانضمام للحركة، وسرعان ما رحّب رابح بتلك الدعوة.
وفي هذه الفترة أيضًا اتصل رابح بزعيمٍ ديني آخر هو محمد المهدي السنوسي في ليبيا، الذي سمع عن رابح وفتوحاته ووجد فيه حليفًا قويًا، ولم يلبث هذا التحالف أن تُوِّج بزواج نجل رابح، فتح الله، بإحدى بنات السنوسي.
على إثر ذلك، اقتنص رابح زواج ابنه من ابنة السنوسي واتّفق مع السنوسي في عام 1891م على الهجوم على بعثة بول كراميل الفرنسية، فقتلوا رئيسها واستولوا منها على 400 بندقية حديثة، وكان هذا بدء اصطدام رابح بالفرنسيين.
واتجه رابح بن الزبير لنشر الإسلام في الغرب الإفريقي، الذي كان يتواجد به قبائل وثنية، واتخذ من الشريعة الإسلامية أساسًا لحكمه، وقد حاولت أوروبا استمالته ولكنه رفض التعاون معهم، لهذا خططت فرنسا للقضاء عليه وضم مملكته إليها، خاصة أن مملكة رابح كانت تقف عقبة أمام توسعات إنجلترا في نيجيريا وفرنسا في النيجر.
كابوس فرنسا
بدأ الزحف الفرنسي تجاه رابح بن الزبير منذ عام 1894م، بعد سيطرة الفرنسيين على الساحل الغربي الأفريقي وتفرغهم للصحراء، وبسبب صعود الإمبريالية الأوروبية في ذلك الوقت، وتطلعها للموارد البشرية والطبيعية، وجدوا أن أفريقيا أرضًا غنية بالموارد، مما جعل الدول الأوروبية تتطلَّع إلى احتلال القارة، وكانت فرنسا من أنشط الدول التي تسعى لضم الأراضي الأفريقية إلى إمبراطوريتها.
واستطاعت فرنسا أن تستميل السنوسي إلى صفها دون قتال، كما عقدت معاهدة مع السلطان عبدالرحمن جوارنج، سلطان منطقة باكرمي، الذي كان يخاف على نفسه من قوة رابح، فرحب بتلك المعاهدة التي تضمن له حماية فرنسا ضد رابح.
وبذلك استطاعت فرنسا أن تتخلص من قوتين سياسيتين، ولم يبقَ أمامها من ندٍّ إلا رابح، الذي وقف ضد الاستعمار الفرنسي وحده، وكانت دولة رابح حينها قد توسّعت إلى بحيرة تشاد، فزحفت القوات الفرنسية بحملة يقودها ضابط فرنسي اسمه بريتونيه ومعه السلطان عبدالرحمن جوارنج.
إلا أن رابح كان مستعدًا لهذه الحملة، وقتل قائد الحملة الفرنسية بريتونيه، وأسر السلطان جوارنج وعدداً كبيراً من أتباعه، وبالرغم من تصديه وحيدًا للحملة استطاع أن يصمد في وجه الفرنسيين، كما جعلهم يتكبدون خسائر في القوات والأرواح.
فأرسلت فرنسا حملة أخرى أقوى من سابقتها، واستطاعت أن تطرد رابح من نيجيريا والكاميرون وتعيده نحو حدود دولة تشاد، حيث بدأت قوات إميل جنتيل بمهاجمة قوات رابح للمرة الثانية في مدينة كانو، في 28 أغسطس 1899م، دارت خلالها معركة حامية الوَطِيس، استمرت على مدى ثلاثة أيام على التوالي دون انقطاع، وتكبَّد فيها الطرفان خسائر جَسيمة في المعدات والجنود، وكادت تفنَى فيها قوات رابح بعد أن خسرت أفضل قادتِها العسكريين الذين قدموا أروع صور المقاومة.
استشهاد القائد
أصدرت فرنسا أوامرها للضابط لامي في أفريقيا للتقدم نحو تشاد، وتوجهت ثلاث حملات للقضاء على رابح بن الزبير، فقامت القوات الفَرنسية في مارس 1900م بضرب حصار شديد على قوات رابح، ثم شرَعت بمهاجمتها في أبريل، ودارت معركة حاسمة في منطقة لخته، قتل فيها القائد الفَرنسي لامي، وسقط فيها رابح شهيدًا في الثالث من رمضان عام 1307هـ/ 12 أبريل 1900م.
إلا أن قتل لامي زاد في حنق المستعمر الفرنسي، فقامت القوات الفَرنسية بعمل بشعٍ يضاف إلى جرائم الاحتلال، فقاموا بقطع رأس المجاهد رابح ورفعه على السيف وطافوا به شوارع ركوة كرسالة تخويف وإرهاب للشعب التشادي المسلم.
وقد حاول الفرنسيون بعد مقتل الجنرال لامي أن يخلدوا اسمه في تشاد، فسموا عاصمة البلاد فورد لامي، لكن التشاديين الوطنيين أصروا على تسميتها أنجمينا، الاسم الذي أطلقه عليها رابح، وتعني استجمينا أو استرحنا.
ولم تتوقف المقاومة ضد المستعمر الفَرنسي في منطقة بحيرة تشاد وكل أنحاء القارة السمراء، فقد حمل لواء الكفاح والجهاد أبناء المجاهد رابح رحمه الله، واستمر جهادهم 40 عاماً بعد وفاة رابح، ومضوا للسير على طريقه في مكافحة الاحتلال جيلًا بعد جيل، حتى تحقَّق حلمهم في طرد المستعمر الأجنبي من أرضهم في بداية الستينيات من القرن العشرين.
ولا تزال ذكرى رابح بن الزبير حاضرة في الذاكرة التاريخية في ربوع القارة الأفريقية، وتدور حوله الكثير من القصص والأساطير الشعبية.
وختامًا، تبقى القارة الأفريقية على نهج الكفاح ضد الاستعمار، وإن اختلفت أشكاله وأقنعته، وعلى نهج القائد رابح بن الزبير ما زال الأفارقة يناضلون من أجل التحرر، ويتضح ذلك في تقهقر الوجود الفرنسي من أفريقيا عامًا بعد عام، كان آخرها بوركينا فاسو التي طردت القوات الفرنسية وأنهت الاتفاق العسكري معها.
ومن قبلها دولة مالي التي سحبت فرنسا قواتها منها العام الماضي، بعد أن قرر المجلس العسكري إنهاء العمليات العسكرية الفرنسية بعد أن دامت 10 سنوات، ودولة تشاد التي اشتعلت عن بكرة أبيها العام الماضي، في احتجاجات كان شعارها «فرنسا ارحلي».
وتبقى روح رابح الثورية تسري في كيان الأمة الأفريقية، وتبقى سِير العظماء نبراسًا للمكافحين والمناضلين لأجل الحرية.
__________________________
1- سعد الدين الزبير، إمبراطورية رابح الزبير، مذابح الاستعمار الفرنسي في السودان، الطبعة الأولى، 1935.
Noor-Book.com الأمير رابح بن الزبير بن فضل الله 2 .pdf
3- وائل علي، رابح فضل الله نابليون أفريقيا الذي أرعب الفرنسيين، الجزيرة نت، مايو 2017.
4- فرج كندي، حركة الشيخ رابح بن فضل الله ضد الاستعمار الفرنسي في تشاد، شبكة الألوكة، سبتمبر 2017.