أصبحت وسائل التواصل الإلكتروني الحديثة أمراً واقعاً لا يمكن تجاهله، بل أصبحت من أهم ما يميز العصر والتخلف عنه غير مقبول عقلاً بعد انفتاح العالم ليصبح قرية واحدة لا يمكن الفصل بين شعوبها اجتماعياً وعلمياً وسياسياً وكذلك اقتصادياً، حيث تتم عمليات التبادل التجاري عبر تلك الوسائل، ويتم ما هو أخطر من ذلك وهو التبادل الفكري.
ولذلك، فقد صار توظيف تلك الوسائل للاستخدام الأمثل لها أمراً واجباً على المعنيين والانتباه لخطورتها وأهميتها قبل أن يصعب التحكم بها
التعليم عن بُعد وتقنيات الاتصال الحديثة
والتعليم عن بُعد هو أحد روافد وسائل الاتصال الحديثة، وقد فرض نفسه كوسيلة مهمة وظاهرة لا يمكن نكرانها في تخريج مئات الدفعات من المتعلمين والمتدربين في المجالات المختلفة، خاصة العلوم الإنسانية دون التقيد بمكان أو بعمر المتلقي أو جنسيته طالما أنه يملك ثمن تلك الخدمة.
ولا يختلف تعريف التعليم عن بُعد عن تعريف العملية التعليمية عامة إلا من خلال الوسيلة التعليمية، فهو عملية توصيل المادة العلمية عبر تكنولوجيا الاتصال كالحواسب الإلكترونية وشبكة الإنترنت والهواتف الذكية ووسائل قد تظهر مستقبلاً دون النظر للمسافة القائمة بين المعلم والمتعلم، وذلك لتحقيق أهداف التعليم والتدريب المعروفة.
وهو ليس في حد ذاته فكرة مستحدثة، فقد اعتمدت البشرية في تاريخها على توارث العلم جيلاً عن جيل كنوع من التعليم عن بُعد عبر التدوين على الأحجار والأشجار والجدران ثم الأوراق والكتب، إنما المستحدث الذي يجب التكيف معه هو الوسيلة التي صارت مقروءة ومسموعة ومشاهدة ومحفوظة في أقراص مدمجة منتقلة عبر الفضاء دون تكليف العنصر البشري مؤنة حملها ونقلها.
التواصل الإلكتروني وتأثيره على سيكولوجية المتعلم
تتكون أطراف عملية التعليم عن بُعد إلكترونياً من: المعلم، والمتعلم، والوسيلة التعليمية، والمادة التعليمية، وهي نفس أركان عملية التواصل الإنساني غير أنها ينقصها التفاعل المتبادل بين المعلم والمتعلم، فالمعلم فيها يقع عليه عبء مضاعف لافتقاد الاتصال المباشر بينه وبين الطالب الذي يحتاج في معظم الأحيان للمناقشة والاستفسار، والمتعلم فيها إنسان ذهب بكامل إرادته مصراً على دفع ثمن تعليمه الذي خرج من طور المجانية الحكومية المتاحة، ثم الوسيلة التعليمية الإلكترونية التي تتحلى ببعض الميزات، منها عدم الحاجة لتفرغ الطالب لتلقي العلم، حيث إنه يستطيع الرجوع إليها في أي وقت ليلاً أو نهاراً، بما أنها مسجلة ومحفوظة، كذلك لا تتطلب الذهاب لمكان ثابت.
وإذا أردنا أن نعرف الفرق بين التعليم الإلكتروني والتعليم المباشر، فيجب علينا معرفة المعنى الاصطلاحي للتواصل الذي هو عملية تفاعل بين طرفين، والتواصل في تعريف د. محمد محمود حيلة في كتابه محور التواصل (ص 96): «إنه عملية اجتماعية يقتضي تحقيقها وجود طرفين هما مرسل ومستقبل، ونشوء تفاعل بينهما وينتج عنه نقل الأفكار والمعلومات والمهارات أو الاتجاهات والمشاعر أو تبادل التأثير إزاء الموضوع»، فالفرق بين التعليم عن بُعد والتعليم المباشر في التواصل التام بين طرفي العملية التعليمية، علاوة على نقل المادة العلمية، يتم تفاعل إنساني ما، وعلاقة اجتماعية لا تتوقف عند حركة اللسان، وإنما تعبيرات الوجه وطبقات الصوت ولغة الجسد، وبما أن كل اختراع حديث قدمته الإنسانية لنفسها في السنوات الأخيرة كان نتيجته فقدان قيمة اجتماعية ما، فكذلك يمثل التعليم الإلكتروني بما يحمله من مزايا عديدة، إلا أنه أفقد المتلقي قيماً إنسانية بالغة الأهمية، غير أنها في حقيقتها غير لازمة فعلياً لإتمام عملية تلقي المعلومات.
وسيكولوجية المتعلم غير معنية في التواصل الإلكتروني، أو التأثير والتأثر الوجداني، وهو الذي يدفع الطالب للتأثر المباشر بالمعلم والنظر إلى جوانب أخرى أخلاقية تمس مسألة التربية أكثر مما تمس العملية التعليمية، بمعنى آخر أن التعليم عن بُعد قد يكون فاعلاً بدرجة كبيرة وناجعاً في الأعمار الكبيرة التي تخطت مسألة التربية، أما الأعمار المبكرة في الطفولة وحتى البلوغ فليزمها عملية التلاقي الإنساني كي تتم بالصورة المثلى وتؤتي ثمارها المرجوة.
وتمثل الأسرة المؤسسة التربوية الأولى وتنجح بشكل كبير في وجود طرفي المعادلة معاً، وهم الأبوان من ناحية، والطفل في الناحية الأخرى، وتمثل المدرسة المؤسسة الثانية تربوياً وتعليمياً، فيكون المعلم كذلك حاضراً في ناحية، والطلاب معاً في الناحية الأخرى تجمعهم مشاعر وأخلاق وقيم مرجوة مرتبطة بوجود رجع الصدى من الطالب، وذلك ما لا يتم من خلال التواصل الإلكتروني.
تجارب متميزة في تطبيق التعليم عن بُعد
وقد حققت عملية التعلم عن بعد نماذج اجتماعية ناجحة في تعليم الكبار والصغار على حد سواء، حين اضطر العالم للجوء إليها أوقات الأزمات العامة كأزمة كورونا على سبيل المثال، حيث لم يسمح بالاختلاط والخروج من المنازل، كذلك يمكن اللجوء إليها في حالة الحروب والأوقات حيث يمثل الخروج خطراً على الطلاب، كذلك المجتمعات التي لا تسمح لفتياتها بالانتقال والسفر بعيداً عن الأسرة، وقد استطاعت بعضها تحقيق المعادلة من خلال التعليم عن بُعد مثل المجتمع السعودي كما تقول الباحثة السعودية إيمان بنت عوضه دخيل الله الحارثي في بحث نشرته مجلة «البحوث النوعية» بعنوان «دور نظام التعليم عن بُعد في تنمية المرأة السعودية»، تقرر فيها بعد ذكر مجموعة من معوقات تنمية المرأة علمياً وعملياً وكان أهمها «الحاجة إلى الإعداد والتأهيل»، غير أن الظروف الاجتماعية للمرأة حالت دون الوصول إلى ذلك الإعداد رغم إتاحته بالجامعات العامة بالمملكة، فتم طرح فكرة «التعليم عن بُعد» كخيار يمكنه أن يسهم في تحقيق المشاركة الحقيقية للمرأة في التنمية، وهو ما ذهب إليه العديد من الباحثين، وما أكدت عليه منظمة «يونسكو»، وأشارت إليه الكثير من الدراسات من أن التعليم عن بُعد حقق الكثير من النجاحات للعديد من النساء ووفر لهن الكثير من الفرص التنموية التي ما كانت ستتوافر لهن بدونه.
ويتم اللجوء للتعليم عن بُعد كذلك حين يصعب السفر وترتفع تكاليفه ويضطر فيه المتعلم للتفرغ الكامل وتغيير نمط حياته، بل وتركها خلفه جملة رغم ما بالسفر من اكتساب خبرات إنسانية واسعة إلا أن الجميع لا يمتلك تلك المقدرة التي تمثل رفاهية بالنسبة للبعض، فأنشأت جامعات عالمية فرضت لنفسها مكاناً واعترف العالم بشهاداتها التعليمية والتدريبية، لذلك فقد وجب مواجهة الواقع بشجاعة والتفكير الجدي في توظيفها بشكل حضاري ملائم.
وسائل التواصل الاجتماعي سلاح ذو حدين
ككل جديد توصل إليه العلم في العصور الحديثة كان سلاحاً ذا حدين، كالسلاح النووي يمكن استخدامه في الطب ومعالجة الأمراض، فكذلك يمكن صنع قنبلة مبيدة، وكالسكين يمكن أن تستخدمه كأداة لإعداد الطعام، ويمكن أن تنتزع به حياة إنسان، وكالتلفاز والهاتف المحمول يمكن أن تتركه في يد ابنك بغير رقابة تصنع منه مسخاً لا يعرف الله، أو تراقبه ليحصل من خلالها علي معلومة أو قيمة إنسانية تختصر أيام من محاولة غرسها بالكلام، وطالما أن تلك الوسائل الإلكترونية صارت واقعاً مفروضاً علينا لا يمكن التراجع عنها فبالأحرى أن نتعامل معها بجدية وتوجيه ورقابة اجتماعية ورسمية صارمة كي تؤتي أكلها إيجاباً على مجتمعاتنا العربية والإسلامية.