شهد موسم رمضان هذا العام العديد من المسلسلات المصرية والعربية والخليجية التي تنوعت أغراضها ما بين التشويق والكوميديا والدراما التاريخية والاجتماعية والدينية.
ومن بين المسلسلات التي عرضت مسلسل «جعفر العمدة» الذي قام بتأليفه وإخراجه محمد سامي، حيث حقق أعلى نسب مشاهدة من الجمهور المصري والعربي، وفق بعض الصحف المصرية وتصريحات القائمين على العمل، وهو ما يثير عدداً من الأسئلة حول العمل وطبيعته ومقاصده، منه:
ما الذي جعل المسلسل يحصل على أعلى نسب مشاهدة من بين كل المسلسلات الأخرى؟!
في تصوري أن مفردات عمل «جعفر العمدة» لم تكن متقنة حد الإبهار، فلم يخرج العمل بعيداً عن المألوف في الحبكات الدرامية المصرية، بل عزز هذا العمل «التيمة المكررة» للممثل محمد رمضان ومن على شاكلته من فرسان وأبطال الدراما في مصر في السنوات الأخيرة.
فمن شاهد بداية العمل بإمكانه أن يتنبأ بنهايته، لا سيما وأن تيمة فقدان طفل ورجوعه إلى حضن أهله من أكثر ما كرر في الدراما المصرية والعربية، مع الأداء المتواضع لعدد كبير من أبطال المسلسل.
كذلك لم يتم عمل الماكياج كواحد من عناصر العمل الفني باحترافية، فالصورة التي خرج بها محمد رمضان لا تعكس أنه رجل في الرابعة والخمسين من العمر حيث الشعر المكوي، وملامح الشباب التي تملأ قسمات وجهه، فضلاً عن قوامه الممشوق، ولا الصورة التي خرجت بها هالة صدقي التي تمثل دور والدته تعكس شخصية امرأة سبعينية، ناهيك عن ضعف الأداء فيما يتعلق باختيار الممثلات اللاتي لا ينتمين بشكل من الأشكال لملامح سيدات الأحياء الشعبية حيث التفاوت في الرقة والنعومة وطريقة نطق الكلمات!
إذن، ما الذي جعل المسلسل يحظى بهذه النسب غير المسبوقة من المشاهدة؟
بعيداً عن امتلاك جهاز سيادي مصري للشركة المنتجة للمسلسل، ما جعل كل الأقلام الناقدة تشيد به بمن فيهم طارق الشناوي (الذي لا يعجبه العجب)، وبعيداً عن الإنفاق السخي على العمل، والتسويق الجيد له، في تقديري فإن نجاح المسلسل وتحقيقه كل هذه المشاهدات جاء كونه يداعب أحلام السواد الأعظم من الشعب المصري بمختلف طبقاته، وربما قطاع كبير من الشعب العربي.
فجل الرجال يتطلعون للعيش مع أربع زوجات جميلات يتنافسن في الإقبال عليه ويتسابقن في تدليله وإغوائه، وجل النساء يتطلعن إلى الرجل الغني الذي لا يبخل عليها بالمال والذهب والمجوهرات، والجميع يحلمون بركوب السيارات الفارهة، وجل الشباب يحلمون بركوب سيارة مرسيدس كما هي حال ابن بطل المسلسل، وتتطلع كل امرأة للعيش مع رجل شهم، جدع، ابن بلد، لا يفرط في حقه، ويتمتع بقوام ممشوق، وعضلات مفتولة، وقدرة على استرداد حقه في أسرع وقت، لا يتوانى عن حماية أسرته حتى لو اضطر أن يذهب إلى مكتب رجل أعمال كبير ويضربه هو وطاقم حراسته ضرباً مبرحاً أمام الموظفين وهو الرجل الخمسيني الذي يرتدي جلباباً أنيقاً!
إذن، نجح المسلسل في مداعبة خيالات الرجال والشباب من مختلف الطبقات الاجتماعية، والنساء بعاطفتهن المعهودة، والمتزوجات اللاتي يندبن حظهن، علاوة على ذلك فقد نجح في مداعبة خيالات النساء ذوات السن الأكبر، فأم جعفر العمدة (هالة صدقي) لا يبدو عليها أنها في السبعينيات من العمر، بل قدمها المخرج على أنها امرأة قوية صاحبة نفوذ واسع على كل المحيطين بها، رجالاً وإناثاً دون الاستناد إلى معيار حقيقي يمكنها من فعل ذلك!
أيضاً عزز المسلسل فكرة «الثراء السريع» التي تداعب أحلام البؤساء الذين يصطدمون بعشرات ومئات العوائق في رحلة الكسب اليومي، في ظل الارتفاعات الهائلة في الأسعار والتضخم غير المسبوق في الأسواق، وقلة الرواتب، وندرة فرص العمل!
كما لعب المسلسل على وتر حساس جداً لدى كثير من الرجال، فقد ركز على فكرة الرجل الذي يأخذ حقه بذراعه ولا ينتظر القانون، ويخضع الجميع لعالمه هو، وقوانينه الخاصة به، ويبسط نفوذه بقوته وماله، وينجح كل مرة في هزيمة أعدائه، ويتعامل مع مفردات حياته بقوة وثبات انفعالي يُحسد عليه، ويسيطر على نسائه الأربع، ولا تقدر واحدة منهن أن تعصي له أمراً؛ ما يجعل المشاهد يفضل هذا النوع من الرجال ويتمنى أخذ موقعه، لا سيما حين يكون أسير وضع اقتصادي مزرٍ، ويعيش في بيئة لا يتوفر فيها الحد الأدنى من العدالة، وجو عام يجد فيه الرجل مشقة في إدارة بيت واحد بزوجة واحدة لا أربعة بيوت بأربع زوجات!
ضرب للقيم
طيلة حلقات المسلسل ولا يعلم أحد شيئاً عن مهنة بطل المسلسل، فكل هذا الثراء وكل هذا النعيم ولا مهنة معروفة له تدر كل هذا الدخل الذي يمكنه من الإنفاق على أربعة بيوت بسخاء ويركب أفخم السيارات؛ ما يعزز لدى الشباب البائس فكرة الثراء السريع المنبثق من رأسمالية فاحشة تترعرع فيها الفهلوة والنصب والكسب غير معلوم المصدر، وذلك بخلاف مسلسل «لن أعيش في جلباب أبي» مثلاً، الذي قدم للجمهور شخصية «عبدالغفور البرعي»؛ ذلك الرجل الفقير المعدم الجاهل لكنه كان يقدر العلم جداً، ومؤمن بأهميته.
وتجلى ذلك في حرصه على تعليم أولاده جميعاً، فشخصية البطل في مسلسل «لن أعيش في جلباب أبي» امتلك الطموح وحدد الهدف وسعى لإنجازه، والأهم من ذلك أنه كان تاجر خردة، ومقاولات، وعقارات وصناعة، وكثيرة هي المرات التي رأينا مشاهد من داخل مصنع الحديد والصلب، ورأينا اللقطة العبقرية في نهاية المسلسل وهو يعلن عن الشروع في إنشاء مصنع آخر للحديد والصلب بما يعكس لدى المشاهد حقيقة الثراء، وكيف أنه تأسس على جهد حقيقي فقدم للمجتمع نموذجاً مثالياً للإنسان الذي لم يتحجج بالظروف، فأفاد نفسه وأفاد مجتمعه!
وحيث لم يُظهر المسلسل «جعفر العمدة» مهنة شريفة لبطله، فأكد برسالة ضمنية أن كل هذا الثراء الفاحش إنما كان بسبب قيام ذلك البطل بالإقراض بربا فاحش، وهو ما يشجع الناس على التعامل بالربا.
صحيح أن مخرج العمل تحلى بذكاء شديد مع هذه القضية، حيث ظل طيلة 29 حلقة من حلقات المسلسل وهو يحسن صورة الرجل المرابي، ويداعب من خلال شخصيته أحلام الفقراء والبائسين، لكنه في الحلقة الأخيرة وفي مشهد قصير قدم البطل المرابي وهو يعد شيخاً بأنه لن يقوم بتسليف الأشخاص الأموال، ولا أدري كم من شخص تابع رحلة ثراء البطل ونفوذه وقوته وسيطرته رأى هذا المشهد القصير!
تعزيز الحيل الدفاعية
من القيم السلبية التي رسخها المسلسل تعزيز الحيل الدفاعية الشيطانية المنفلتة من قيود الشرع والعرف والعادة، حيث أبرز المخرج مشهداً لإحدى العناصر النسائية المشاركة في المسلسل وهي تهين زوجها وتطعنه في رجولته بزواجها من رجل آخر دون علمه.
ولهذا، لديّ شك يتاخم اليقين أن كثيراً من النساء اللائي شاهدن المسلسل سألن أنفسهن هذا السؤال: لماذا يتزوج الرجل أربع زوجات، ويُقبل على كل امرأة تعجبه، ولديه القدرة على الاختيار والنأي بعيداً عما يزعجه، في حين أن المرأة لا تستطيع ذلك خاصة وأنها تعيش في كنف رجل ضعيف لا يقدرها؟!
فأوجد المسلسل حلاً ممكناً لكل امرأة تعاني في حياتها الزوجية لا سيما وأن لغطاً كبيراً أثير بعد هذا المشهد وجدلاً كبيراً بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي، بل حتى بين رجال القانون ورجال الشريعة حول قانون الخلع المصري، ومدى انسجامه مع الشريعة الإسلامية.
وهذه القضية التي أثارها المسلسل (قضية الخلع دون إخطار الزوج) لم تكن هي القضية التي فيها تماس بين القانون والشريعة في الدراما الرمضانية هذا العام، فقد جاء مسلسل «تحت الوصاية» لتسليط الضوء على قضية نقل الوصاية من الجد إلى الأم، وعلى الرغم من أحداث المسلسل تثبت أن الأم (منى زكي) لا تستحق الوصاية على أولادها حيث قامت بسرقة مركب بدون وجه حق، وأخرجت أولادها من المدارس وعرضتهم لأخطار كثيرة، وسعت في تزوير أوراق رسمية، وتعاملت مع متعاطين للمخدرات ولصوص، وعرضت نفسها للتحرش.
فإن مخرج العمل بأدواته من صوت وصورة وماكياج وإضاءة وموسيقى تصويرية وأحداث تستحث التعاطف من الجمهور أراد أن يداعب خيالات كل امرأة تريد أن تكون وصية على أولادها بدلاً من الجد كما ينص على ذلك القانون المصري الذي جاء منسجماً من الشريعة الإسلامية.
اللافت أن مسلسل «جعفر العمدة» ومسلسل «تحت الوصاية» تبعهما مطالبات برلمانية وجماهيرية بتغيير قانون الخلع وقوانين الوصاية، بسبب وجود ثغرة قانونية تحتاج لتدخل تشريعي، وأيضاً تدخل تشريعي لجعل الوصاية للأم في المقام الأول، وهو ما يؤكد أن مثل هذه الأعمال الفنية التي ينفق عليها ملايين الجنيهات موجهة بالأساس لتدمير القيم وضرب ثوابت الشريعة الإسلامية، لكن بدلاً من قيام المشرع بتعديل الدستور فإنه يجعل المطالبات تأتي من الجمهور!
قيم سلبية
في المسلسل ترسيخ لقيمة سلبية تتمثل في إهانة الأطباء في وقت يشكو فيه غالبية أطباء مصر من ظاهرة الاعتداء عليهم في العيادات والمستشفيات من أهالي المرضى لا سيما في الأحياء الشعبية دون مساندة ودعم من الدولة.
ففي أحد مشاهد المسلسل يوجه جعفر العمدة خطاباً عنيفاً للطبيب قائلاً له: «تقعد جنب المريض ده، ولو مات هخليك تحصله»، وقد بدا الطبيب لا قوة له ولا حيلة، في حين يبدو البلطجي قوي الشخصية معتداً بنفسه، واثقاً في قدرته على تنفيذ ما يقول، ما يشجع ضعاف النفوس والأخلاق على التعامل مع الأطباء بمثل طريقة جعفر العمدة على اعتبار أنها الوحيدة التي ثبت نجاحها في سرعة تشافي المريض!
تزيين الباطل
من القيم السلبية التي يرسخها المسلسل بشكل عام أن بطله يربط النجاح بمعان إيمانية خالصة، فدائماً ما يكرر على مسامع جمهوره لا سيما من الشباب المتخبط فاقد الهوية والانتماء أن ما هو فيه وما وصل إليه محض توفيق من الله، ولولا توفيق الله وثقته في دعم الله له لما نجح العمل.
ولا شك أن ربط هذا الانحطاط بمصطلحات ربانية يصب في طمس الحقائق، وتزيين الباطل، وتأليب النفس، وتعزيز شطحاتها، وتأجيج العقد النفسية لا سيما وأن الفجوة واسعة بين ما هو متخيل ومتصور وبين ما هو واقع!
كان بإمكان المسلسل أن يجعل ارتكاز الأحداث حول «خطف ابنه» ويعجل بسرعة اللقاء بين الأب والابن المخطوف، لكنه علق هذا اللقاء بما يجعل المشاهد منتظراً تلك اللحظة التي يلتقي فيها الاثنان، وبما يمكنه من عرض أفكاره الساخنة وطرح قيمه المنحرفة بين لحظة الخطف ولحظة اللقاء.
ولم ينس مخرج العمل أن يسرب كل هذه القيم لنفوس المتابعين وهي تتغذى على الموسيقى التصويرية، والإضاءة الخافتة، والأحداث المثيرة التي تداعب عواطف السواد الأعظم من الناس!
________________
(*) صحفي وباحث.
من وحي مسلسلاتهم
جعفر العمدة ورمضان!!!
على حين غفلةٍ من أهل الحق تسلَّط أهلُ الفنِّ من الممثلين والممثلات- هؤلاء الشراذم الأقزام- على مائدة رمضان، فاقتطعوا من أوقات الناس ما ملَؤوه ضجيجًا وعجيجًا، ومعاصيَ ومنكراتٍ تحت مسميات: السهرات الرمضانية، والفوازير والمسلسلات، والبرامج المضحكات، التي تزيد من رقعة الغفلة، وتوسِّع هوَّة الانفلات من الأحكام الشرعية والأخلاق الإسلامية المرعية، ورمضان لم يكن يومًا من الأيام مضمارًا للمسابقات، ولا للمسلسلات التي تسلسل عقول الناس بالمنحط من الصور والأطروحات كجعفر العِرَُة ورامز إسفاف.
نعم، كان رمضان ميدان سباقٍ للمجتهدين المتهجدين، وموئل عباد الله الذاكرين، وكانت جنبات المساجد ميادين مسارعة إلى رضوان الله، فما كان المصلون التراويح يخرجون إلا قربَ بزوغ الفجر، أمَّا هذه الصورة المقيتة وما يريدون إبراز رمضان فيه، فهو نتاج ما زيَّنته في عقولهم الشياطين، فولَّدت هذه الصورة المشوَّهة التي يعملون لأجلها ليل نهار، ويزداد سعارهم في رمضان!!!
ثم كانت ثالثة الأثافي حين تطاول هؤلاء الأقزام على عظماء الأمة ورجالات الإسلام، والكوكبة المباركة ممن كانوا حول رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- من الصحابة الأبرار، فصوَّرُوهم تمثيلاً، وأبرزوا جوانب من سيرتهم تضليلاً، وهكذا تُنقض عرى الدين، ويسود الانحراف، وتنتشر الرذيلة، وتنحسر الفضيلة، وتنهار وتسلب ديار المسلمين، والله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.