يقول المثل الأفريقي: «يمشي الشاب أسرع من كبار السن، لكن كبار السن يعرفون الطريق»، وهذا الطريق الطويل الذي قطعته تركيا مع القارة الأفريقية لتصبح شريكاً إستراتيجياً موثوقاً، على مدار السنوات الماضية، تقف فيه الآن أمام لحظات فارقة بين التغلغل والانحسار.
فعلى أعتاب الانتخابات التركية القادمة، في 14 مايو الحالي، يبرز مصير علاقات تركيا الخارجية؛ وعلى رأسها القارة الأفريقية التي نالت اهتماماً كبيراً منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في عام 2002م، وتكثر التساؤلات عما إذا كانت المعارضة ستولي أفريقياً ذات الاهتمام إذا فازت بالانتخابات.
في هذا التحقيق، تتناول «المجتمع» علاقة تركيا الفريدة بالقارة الأفريقية، وما حققته تركيا وسط المنافسة الحامية على الأراضي السمراء، ومصير هذه العلاقات في ظل الانتخابات التركية القادمة، والتغيرات السياسية المحتملة في الشأن التركي.
بين الشراكة والاستعمار
تجري الأحداث سريعاً على الأراضي السمراء، وتشهد القارة حراكاً دولياً أسهم في تغيير شكل ومصير القارة وتوسّع شبكة علاقاتها الخارجية؛ التي تزداد تعقيداً مع دخول أطراف فاعلة جديدة على الساحة الأفريقية.
فبالإضافة إلى القوى الغربية الحاضرة بقوة في القارة السمراء، نجد قوى مثل الصين واليابان والهند وروسيا قد بدأت في السنوات القليلة الماضية تسعى لتأكيد حضورها في أفريقيا، وذلك لخلق مناطق نفوذ تسمح لها بفرض سيطرتها على مصادر دول أفريقيا الطبيعية أو أسواقها أو مواقعها الإستراتيجية.
وقد أصبحت تركيا اليوم طرفاً مؤثراً بوضوح في أفريقيا، ولها مكانة فريدة بحكم ما حققته سياستها الخارجية متعددة الأبعاد خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، وما تزال تركيا تسعى إلى زيادة نفوذها في القارة باستخدام كل القنوات الدبلوماسية والتجارية والتعليمية والصحية والأمنية والعسكرية، إلى جانب توظيفها أدوات القوة الناعمة المتمثلة في الثقافة والتاريخ.
واكتسبت علاقات تركيا مع الدول الأفريقية زخماً، خاصة بعد إعلان عام 2005 «عام أفريقيا»، ودخولها الاتحاد الأفريقي بصفة عضو مراقب في ذات العام، ثم انعقاد قمة التعاون التركية الأفريقية الأولى في عام 2008.
كما تحظى العلاقات مع تركيا بثقة كبيرة من الدول الأفريقية، كبديل عن علاقاتها غير المتكافئة مع الدول الاستعمارية سابقاً، حيث يجد الأفارقة في تركيا الشريك الموثوق الذي يحترم تطلعاتهم التنموية وسيادتهم الحرة من أي توصيات أجنبية.
فيقول رئيس المعهد التركي العربي الأفريقي للدراسات الإستراتيجية بأنقرة، د. محمد العادل: إن تركيا قبل عام 2005 لم تكن تضع أفريقيا كأولوية أو كشريك سياسي واقتصادي وأمني، وأوضح أنه كان هناك علاقات تجارية؛ لكنها ليست منطلقة من إستراتيجيات مُخطط لها من الحكومة بقدر ما هي مبادرات لشركات خاصة تريد التسويق التجاري لا أكثر.
وأكد العادل، في حديثه لـ«المجتمع» أن تركيا اليوم أصبح لديها توجه حقيقي وأبعاد إستراتيجية تجاه القارة؛ لأنها تريد أن تكون طرفاً مهماً وفاعلاً على الساحة الأفريقية، وما تتميز به تركيا أنها تمد يد الشراكة وليس يد الهيمنة.
وأشار إلى أن هناك فرقاً كبيراً بين ما تقوم به تركيا وما قامت به الدول الاستعمارية سابقاً في أفريقيا؛ التي تنظر إلى القارة على أنها مجرد طرف يخدم مصالح المستعمر، وسعت للهيمنة على مقدراتها وقرارها السياسي وتوجهها الثقافي واللغوي، وفرضت عليها مناهج تعليمية معينة تُخرج أجيالاً بقالب معين يخدم الرؤية الغربية.
وأوضح العادل أن تركيا ترفع شعار الشراكة مع الشعوب والحكومات الأفريقية، بنظرية «رابح رابح»، لأن تركيا لديها ما تعطيه والشعوب والدول الأفريقية كذلك لديهم ما يعطونه.
العدالة والتنمية.. عهد جديد
منذ تولي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منصبه، والبلاد تولي اهتماماً غير مسبوق لتأسيس شراكات اقتصادية ودبلوماسية طويلة الأمد مع القارة السمراء، وأكدت ذلك الزيارات الرئاسية المتتالية لعدد من الدول الأفريقية، وما يرافقها من توقيع اتفاقيات ومذكرات تفاهم بين أنقرة ونظرائها الأفارقة؛ الأمر الذي أثمر على المستوى الدبلوماسي في تلك العلاقات، من خلال التزايد الكبير لفتح السفارات التركية في بلدان القارة، إذ ارتفع عددها من 12 سفارة في عام 2002 إلى 43 سفارة حالياً.
كما كان أردوغان حريصاً على تأدية زيارات منتظمة للقارة حيث زار، في السنوات الخمس عشرة الماضية، 30 دولة أفريقية مختلفة، بينها زيارتان للصومال الذي مزقته الحرب، ويعتبر هذا العدد من الزيارات للقارة الأفريقية هو الأعلى لزعيم غير أفريقي.
كما زادت تركيا تبادلاتها التجارية مع أفريقيا بخمسة أضعاف من 5.4 مليارات دولار في عام 2003 حين وصل أردوغان إلى السلطة، وصولاً إلى 25.4 مليار دولار في عام 2020.
وتنظم تركيا بصفة دورية «منتديات اقتصادية وأعمالاً تجارية تركية – أفريقية» بالشراكة مع الاتحاد الأفريقي، من أجل تنظيم وتطوير العلاقات التجارية بين تركيا والقارة الأفريقية، وقد شهدت إسطنبول في العام 2016 انعقاد المنتدى الأول، الذي جمع وزراء التجارة والاقتصاد من 42 بلداً أفريقياً، وعُقد المنتدى الثاني في العام 2018 تحت عنوان «معاً من أجل الاستثمار في مستقبل مستدام».
كما بلغ انخراط تركيا في القارة الأفريقية إلى حدّ ولوج مجال التعاون الأمني والعسكري أيضاً، وفي هذا الإطار تنفّذ القوات المسلحة التركية برامج تدريبية للقوات المسلحة الوطنية في كل من ليبيا والصومال، كما انضمت القوات التركية إلى بعثات حفظ السلام في جمهورية أفريقيا الوسطى ومالي.
وبلغت قيمة صادرات الصناعات الدفاعية التركية إلى إثيوبيا 94.6 مليون دولار بين يناير ونوفمبر 2022، وتُشير الأرقام التي قدّمتها جمعية المستوردين الأتراك إلى ارتفاع مشابه بالمبيعات إلى دول أنغولا وتشاد والمغرب، كما تعتزم توغو خطة لتحديث جيشها بدعم من تركيا التي توفر التدريب والعربات المدرعة بالإضافة إلى الأسلحة والمعدات الأخرى(1).
وبحسب العادل، فإن تركيا سجلت هذه الأرقام القياسية خلال 20 سنة فقط، وهذا يزعج الأطراف الغربية التي تحاول محاربة الحضور التركي بشكل أو بآخر؛ من خلال الضغط على الحكومات الأفريقية، أو من خلال التشويه الإعلامي، أو بخلق مشكلات خاصة بالتنافس الاقتصادي.
ويعتقد العادل أن الحكومة التركية مُصرة على مواصلة حضورها في أفريقيا، وما يشجع على ذلك هو التوجه الأفريقي نفسه، فالقادة الأفارقة الذين زاروا تركيا خلال السنوات الماضية يؤكدون حرصهم على الشراكة مع تركيا، ويرون أنها شريك حقيقي يقف معهم عند الحاجة.
ماذا بعد الانتخابات؟
مع وجود جملة من التحديات أمام الوجود التركي في أفريقيا، فإن المؤشر الرئيس لسياسة تركيا في أفريقيا هو التفاعل الذي تطور بين الطرفين بشكل متبادل خلال العقد الماضي، فالوجود التركي في أفريقيا بات اليوم واضحاً ويلفت انتباه الأفارقة بشكل أكبر.
فنجد اليوم آلاف الطلاب الأفارقة يدرسون في تركيا، كما نلحظ تزايداً في أعداد الجاليات الصومالية والسودانية والسنغالية والنيجيرية يوماً بعد يوم داخل تركيا، الذين يفضلون تركيا كوجهة للعمل والتعليم والتجارة والاستثمار أو السياحة.
لكن الانتخابات التركية القادمة تضع مستقبل هذه العلاقات محط تساؤل، عما إذا كانت ستستمر تركيا في توطيد العلاقات مع القارة الأفريقية، أم ينحسر هذا النفوذ في حال فوز تحالف المعارضة.
يرى د. محمد العادل أن أي تغيير سياسي سيحمل معه مجموعة من التغيرات في التوجهات أو الخيارات العامة في سياسات الدولة، لكن لن يحدث تغيير جذري في الحضور التركي في أفريقيا، وأوضح أن تركيا دعمت حضورها في أفريقيا بمشاريع اقتصادية ضخمة يديرها القطاع الخاص أكثر من القطاع الحكومي، والقطاع الخاص ليس بالضرورة أن يكون رهناً للقرار السياسي.
ويعتقد العادل أن التغيير سيكون في أبعاد الاهتمام بهذه الشراكة، كالبُعدين الثقافي والحضاري؛ لأن أحزاب المعارضة معظمها تتناغم مع الأطراف الأوروبية والأمريكية، وفي حال فوزها ستكون مُرتهنة بشكل كبير في سياستها الخارجية للسياسة الأوروبية والأمريكية، وبالتالي ربما يتراجع ذلك الحماس نحو أفريقيا.
أما على مستوى التعاون الأمني والعسكري، أوضح العادل أنه قد يتراجع لأنه مرتبط بتوجهات القرار السياسي، لكنه أيضاً لن يتوقف؛ إلا في الحالات التي قد تفرضها الأطراف الأوروبية والأمريكية على حكومة المعارضة في حال فوزها.
ويتوقع العادل أنه قد يخف الحماس التركي تجاه أفريقيا، إلا أن الشراكة لن تتوقف لأنها صمام أمان للطرفين، ومرتبطة بمصالح مشتركة، خاصة للشعوب الأفريقية التي تناضل من أجل التحرر من الاستعمار القديم وتحاول كسب شركاء إستراتيجيين جدد.
بين أمريكا وأوروبا.. كيف السبيل؟
لم تُظهر تركيا طيلة العهد الجمهوري أداء جيداً في القارة الأفريقية إلا في ظل حكم حزب العدالة والتنمية، الذي تولى السلطة عام 2002.
ويؤدي الاستقرار السياسي والاقتصادي الداخلي لتركيا دوراً حاسماً في استمرار انخراط تركيا في أفريقيا، لأن التنمية والمعونة الإنسانية لا تزالان تمثلان أقوى مجالين لتركيا في القارة، ومن جهة ثانية، نجد أن قوى مثل فرنسا وروسيا والصين والإمارات العربية المتحدة تتحدى الوجود التركي القوي في أفريقيا بسبب مخاوفها الإستراتيجية.
وقد تعرض البرنامج الانتخابي لتحالف المعارضة للعلاقات الأفريقية بشكل محدود، حيث تعهد بتطوير العلاقات مع القارة الأفريقية بطريقة متعددة الأوجه، وتحويل القمم التركية الأفريقية إلى عملية منتظمة(2).
من جهته، يرى أستاذ العلوم السياسية بجامعة صقاريا بتركيا، د. خيري عمر، أن فترة ما قبل العدالة والتنمية كانت العلاقات التركية الأفريقية محدودة للغاية، وكانت تقتصر فقط على البروتوكولات الدبلوماسية التي تمارسها من خلال السفارات، لكن خلال العقدين الماضيين عملت تركيا باجتهاد واضح؛ لكي تكون ضمن الدول المتواجدة في أفريقيا من النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية.
وأكد د. عمر، في حديثه لـ«المجتمع»، أنه ليس واضحاً إذا ما كانت السياسة التركية ستتغير إذا فازت المعارضة بالانتخابات، لكن بملاحظة البرنامج الانتخابي لتحالف المعارضة نجد أنه يولي اهتماماً أكثر بالعلاقات مع أوروبا والولايات المتحدة دون بقية دول العالم الأخرى، لهذا من المتوقع أن ينخفض الاهتمام بأفريقيا إلى حد ما، ولا يكون له أولوية في التوجهات السياسية في المستقبل.
وقال د. عمر: إن الأمر يتوقف عما إذا كانت المعارضة ستعيد النظر في العلاقات مع أفريقيا، وخصوصاً أن ما أرسته تركيا خلال السنوات الماضية يعتبر عملاً مؤسسياً يمكن البناء عليه، ولكن هل يمكن أن تضحي به لصالح العلاقات مع أوروبا والولايات المتحدة؟
ويعتقد د. عمر أنه بالنظر إلى التنافسية بين تركيا والدول الأخرى، يتضح تقارب المعارضة الحالية مع الكتلة الغربية، مما يجعل نفاذ تركيا إلى أفريقيا سيكون من خلال السياسة الأمريكية أو الأوروبية على أقل تقدير.
وتبقى القارة الأفريقية وجهة مهمة وساحة ساخنة لجميع القوى الدولية، وما حققته تركيا من نفوذ عالمي كان بفضل تغلغلها في القارة السمراء، فهل نرى حضوراً تركياً أقوى في أفريقيا خلال الفترة القادمة؟ أم تترك تركيا مكانها على الساحة التي لا تهدأ؟
_________________________
(1) https://www.trtarabi.com/issues/%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D9%83%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A9-%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%A3%D8%B5%D8%A8%D8%AD%D8%AA-%D8%A3%D9%86%D9%82%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D9%83-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%AB%D9%88%D9%82-%D9%84%D9%84%D9%82%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%85%D8%B1%D8%A7%D8%A1-7423026
(2) https://www.google.com/amp/s/arabi21.com/storyamp/1491602/%25D9%2587%25D9%2584-%25D8%25A7%25D9%2586%25D8%25AD%25D8%25A7%25D8%25B2-%25D8%25AA%25D8%25AD%25D8%25A7%25D9%2584%25D9%2581-%25D8%25A7%25D9%2584%25D9%2585%25D8%25B9%25D8%25A7%25D8%25B1%25D8%25B6%25D8%25A9-%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25AA%25D8%25B1%25D9%2583%25D9%258A%25D8%25A9-%25D9%2584%25D9%2584%25D8%25BA%25D8%25B1%25D8%25A8-%25D9%2581%25D9%258A-%25D8%25A8%25D8%25B1%25D9%2586%25D8%25A7%25D9%2585%25D8%25AC-%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25B3%25D9%258A%25D8%25A7%25D8%25B3%25D8%25A9-%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25AE%25D8%25A7%25D8%25B1%25D8%25AC%25D9%258A%25D8%25A9
(*) صحفية متخصصة بالشأن الأفريقي.