في تاريخنا الكثير من الأحداث التي يمكن أن تساهم في تطوير علوم تشتد حاجة الإنسانية لها في هذا العصر، من أهمها علم القيادة وبناء الحضارة بمنظور إسلامي، واستخدام مقاييس غير مادية في تحديد الفوز والنجاح والنصر، فالإنسان يحتاج إلى تحديد أهدافه في الحياة، وأن يتعامل مع نفسه برؤية جديدة، وأن يشحذ بصيرته، ويملأ قلبه بالإيمان لكي يرى الكثير من الحقائق.
والأنصار يقدمون لنا درساً يمكن أن يساعدنا في تطوير أهدافنا، فبعد أن قدم الأنصار الكثير من التضحيات، ونصروا الرسول صلى الله عليه وسلم في كل الغزوات، جاءت غزوة حنين لتشكل اختباراً قاسياً للأنصار، ودرساً مهماً للأمة كلها يجب أن تقرأه بعمق؛ حيث وزَّع الرسول صلى الله عليه وسلم الغنائم الكثيرة على المؤلَّفة قلوبهم الذين حاربوه لسنوات طويلة، وأسلموا قبل الغزوة بوقت قصير، ولم يعط الأنصار شيئاً من الغنيمة.
احترام المشاعر الإنسانية!
تغلبت على الأنصار طبيعتهم الإنسانية؛ فشعروا بالحزن، وفسروا الأمر بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى قومه من قريش وحرمهم؛ لذلك ذهب سعد بن عبادة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليصف له ما حلَّ بالأنصار من حزن، وهنا تجلت حكمة القائد الذي يعرف فطرة الإنسان ويحترم مشاعره، ويتعامل مع الموقف، ويقدم للأنصار وللأمة كلها درساً يساهم في ترشيد مسيرتها، ويحدد لها أهداف الحياة ومقاييس الفوز والنجاح.
لذلك، طلب النبي صلى الله عليه وسلم من سعد أن يجمع له الأنصار في مكان لا يدخل فيه معهم أحد.
الحوار على قواعد الاعتراف بالحقوق
لقد علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يدير القائد الحوار على قواعد الثبات على المبادئ، واحترام الحقوق، فذكَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأنصارَ بفضل الله ورسوله عليهم، الذي تمثل في:
1- الهداية: وهي نعمة عظيمة من الله تعالى، يمكن أن يدركها من كان تائهاً في ضلاله، فأشرق نور الإيمان في قلبه، وملأ نفسه وشكَّل سلوكه ورؤيته للحياة.
2- الوحدة والأخوة وتماسك المجتمع: ذكَّرهم النبي صلى الله عليه وسلم بحالهم قبل وصوله إلى مدينتهم، فقال: «لقد كنتم متفرقين متناحرين يقتل بعضكم بعضاً، فألَّفكم الله بي»، والإسلام وحده هو الذي يوحِّد هذه الأمة، ويؤلِّف بين القلوب، وتلك نعمة عظيمة لا يدركها إلا من عرف الأحقاد التي كانت تدفع للتناحر والفرقة والصراع في الجاهلية.
3- الغنى: فالمدينة أصبحت عاصمة الدولة الإسلامية التي تشتاق لها قلوب المؤمنين، فتتسع أبواب الرزق والخير، وتتطور التجارة، والمدينة كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وستظل عامرة يتدفق عليها الخير من كل مكان؛ لذلك ذكَّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم كانوا فقراء فأغناهم الله تعالى.
أجاب الأنصار في صوت واحد بعد أن أغرقت دموعهم لحاهم: لله ورسوله الفضل والمنة.
الاعتراف بالحقوق وتقدير التضحيات
سألهم النبي صلى الله عليه وسلم: «لماذا لا تجيبوني؟»، فكرر الأنصار مقولتهم الخالدة، فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم نيابة عنهم واعترافاً بحقهم وفضلهم: «أما والله لقلتم فصدقتم: أتيتنا مكذَّباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك وأيدناك، وعائلاً فواسيناك».
هنا ازداد بكاء الأنصار: بل المن علينا لله ورسوله.
وما أجمل هذا الرد الذي يصدر من قلوب رجال آمنوا بالله ورسوله!
وكان ذلك الرد يوضح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم قوة إيمان الأنصار وحبهم له، لذلك اتخذ قراره الذي أدرك الجميع حكمته.
سأل الرسول صلى الله عليه وسلم: «أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟! أما يرضيكم أن أعطي الناس شيئاً من تفاهة الدنيا، وأعطيكم أنتم نفسي، وأجعلكم أهلي وخاصتي؟! أما والله لولا الهجرة لكنت من الأنصار».
وفاز الأنصار بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث أعطى النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار ما يفوق غنيمة حنين، وأموال الدنيا كلها فقال: «اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار».
فبكى الأنصار قائلين: رضينا برسول الله، الذي عاد معهم إلى مدينتهم لتظل المدينة على طول الزمان تشع منها أنوار الإسلام على البشرية كلها، ولتظل عاصمة الدولة الإسلامية طوال عهد الخلفاء الراشدين.
وكانت المدينة المنورة أول مجتمع معرفة في التاريخ، فيها علَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه كيف يحررون البشرية من ظلم الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، وكيف يبنون الحضارة الإسلامية العظيمة القائمة على المعرفة والإيمان.
من الذي فاز؟!
قراءة ذلك المشهد تعلمنا كيف نحدد أهداف حياتنا، فنحن ندرك الآن أن الأنصار هم الذين فازوا، وأن دعاء رسول الله لهم أكبر وأعظم من الغنيمة، وأنهم عادوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مدينتهم.
وكلما أصاب نفسي الأسى بسبب ما تعرضتُ له من نفي واضطهاد، أتذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار وأبنائهم، وأشكر الله تعالى أن رسول الله لم يعطهم شيئاً من الغنيمة، وأعطاهم ذلك الدعاء الذي أرجو أن يشملني.
أما تضحيات الأنصار ونصرتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو فخر وعز لهم في الدنيا، فالله سبحانه تفضل عليهم وأكرمهم باختياره لهم لينصروا رسوله، وأكرمهم الله تعالى بهذا الموقف ليجيبوا الرسول صلى الله عليه وسلم بمقولتهم الجميلة الخالدة: «لله ولرسوله الفضل والمنة».
بذلك علمنا الأنصار كيف نحدد أهداف حياتنا، فنتطلع إلى رحمة الله سبحانه، وتتعلق قلوبنا به، فيكون رضاه غايتنا وهدف حياتنا.
في نهاية الحوار، قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: «إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض»، وظل الأنصار جنوداً يجاهدون في سبيل الله، ويصبرون على ما يلقون من أثرة، ويتطلعون إلى لقاء رسول الله على الحوض، وما أجمل هذا اللقاء! وكم تشتاق له نفوس المؤمنين! ويشتد الشوق كلما ضاقت بنا الدنيا، فنتذكر: «لله ولرسوله الفضل والمنة».
________________________________
(*) أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة.