يبدو أن بعض الدعاة يظن أن أمانة تبليغ الدعوة تقتصر على إفراغ ما في جعبتهم من وعظ ونصح وأحكام، من خلال الوسائل التقليدية، خاصة المنبر والوعظ العام، ويهمل بعض هؤلاء فهم «الميديا» ووسائط الاتصال الحديثة، رغم أن التقصير في فهمها لا يقل عن التقصير في فهم الإسلام والدعوة إليه؛ لأن الدعوة رسالة اتصالية، وهذه الرسالة لا تنتقل إلى الآخرين من تلقاء ذاتها، ولكن لا بد من وسائط ووسائل لإيصالها للمتلقي.
الدين في «الميديا»
والحقيقة أن تغافل خطورة «الميديا» وتأثيراتها قضية يتشارك فيها أهل الأديان، فهو ليس أمراً قاصراً على دعاة الإسلام فقط، فغالبية المتصدرين للشأن الديني إما يتخذون موقفاً سلبياً من «الميديا»، أو يظهرون فيها بصورة باهتة، أو يتركون لصناع الأخبار والمحتوى تشكيل الشأن الديني وفق رؤيتهم وأفكارهم ومعتقداتهم، وهي مسألة في الغالب في غير صالح الرؤية الدينية، إذ يتم بناء صورة ذهنية غير جيدة عن الدين ودعاته في المخيال العام.
ففي دراسة عن الإيمان والإعلام في العالم، صدرت العام الماضي بعنوان «الإيمان العالمي والميديا» (Global Faith and Media)، وهي من أكبر الدراسات في مجالها، كان سؤالها الأساسي: كيف يتم تصوير الإيمان والدين في الإعلام؟ وهي دراسة شملت 18 دولة، وشملت غالبية الأديان في الأرض، وشارك فيها حوالي 9 آلاف شخص، من بينهم صحفيون وصناع محتوى وإعلاميون ورجال دين وأشخاص عاديون، وخلصت إلى نتائج مهمة يجب أن تستوقف الدعاة في بناء تصوراتهم عن «الميديا»، أو التفاعل معها، أو استخدامها كمنبر دعوي.
ومما أشارت إليه الدراسة أن الصحفيين في غرف الأخبار، التي يسيطر عليها العلمانيون -كما وصفتهم الدراسة- ينظرون للتغطية الدينية على أنها شيء رديء وغير متسق مع مفهوم التغطية الإعلامية الإخبارية؛ ولذلك يهمشون الأخبار الدينية ولا ينظرون إليها باهتمام، وأن هؤلاء الصحفيين لا يهتمون بالخبر الديني إلا وقت الأزمة أو الفضيحة، ولعل هذا ما يجعل حضور الشأن الديني في «الميديا» مشوهاً، وسلبياً، وقاتماً، ومخيفاً، فتصبح القصص الإخبارية المنهالة على الناس لا تشجع على الارتباط بالدين؛ بل وتنظر بازدراء وقلق إلى الدين ودعاته.
وذكرت الدراسة أن 53% من العينة أكدوا أن الإعلام يتجاهل الشأن الديني، وأن 63% يرون ضرورة تقديم محتوى عالي الجودة عن الدين والعقيدة، وأن 61% رأوا أن «الميديا» تُديم الصورة النمطية عن الدين، وأن 8 من كل 10 أشخاص رأوا ضرورة أن توفر الجماعات الدينية عدداً من المتحدثين الرسميين ذوي الشأن بالموضوع، وأن «الميديا» توفر قوالب نمطية للدين في الإعلام مما يؤدي إلى استمرار المشكلة، ومن هذه القوالب أن الدين يُنظَر إليه كقوة محافظة أو متطرفة في التغطيات الإعلامية، وأن بعضاً من الشخصيات الدينية التي يتم استدعاؤها في الإعلام –غالباً- ما يتم اختيارها لتؤكد هذا النمط، وقالت الدراسة: «إن غرفة التحرير نادراً ما تمثل تعددية الآراء الدينية في المجتمع».
ويؤكد ما توصلت إليه هذه الدراسة كتاب «النقطة العمياء: عندما لا يتدين الصحفيون»(1) الذي أكد أن هناك عملية تشويه تلحق بالخبر والتغطية الدينية بسبب الصحفيين غير المؤمنين، وقليلي المعرفة بالشأن الديني، وهؤلاء يشكلون خطراً في «الميديا» تجاه بناء التصورات الذهنية للجماهير عن الدين.
وأشار الكتاب –مثلاً- إلى أن الصحفيين الذين يغطون الشؤون الحزبية يمتلكون إلماماً كافياً، وربما واسعاً عن الشأن الحزبي، وربما كان لهم انتماء حزبي، وهو ما يخلق تحيزاً في التغطية، وذلك على خلاف أغلب الإعلاميين والصحفيين الذين يغطون الشأن الديني، لكن الأغرب أنه لا ينظر إلى هذا القصور التكويني والمعرفي للصحفيين على أنه مشكلة وأزمة، وهو ما يرسخ فكرة التغطية السطحية والمشوهة للدين.
يقول بول مارشال، أحد مؤلفي الكتاب: «إن وسائل الإعلام تسيء فهم العالم، الذي تصفه للجمهور، بسبب جهل جاد وطويل الأمد بكل الأشياء الدينية».
اصنع إعلامك
هذا الضغط من «الميديا» على أهل الأديان يفرض على الدعاة فهم موقف الإعلام من الدين بصفة عامة، والإسلام بصفة خاصة، كذلك إجادة التعامل مع الإعلام، والقدرة على طرح الرؤية الدينية بصورة تراعي الوسيط الإعلامي وشروطه.
ونشير هنا إلى نموذج من النجاح لمبشر أمريكي استطاع أن يستثمر «الميديا» استثماراً عالياً، ونجح في أن يتابعه مئات الملايين حول العالم، وهو بيلي جرهام الذي فتح أذهان الإنجيليين على التقنيات الحديثة في الإعلام، وكيفية الاستخدام الكفء لها في السينما والإذاعة والتلفزيون، واستطاع من خلال الإعلام التأثير في المشهد الديني والإنجيلي، وكان الاستماع إليه في الستينيات والسبعينيات صيحة في الغرب، وهو رجل عاش مائة عام تقريباً، ظل قرابة السبعين منها شخصية إعلامية بارزة، وكانت مواعظه تبث عبر وسائط «الميديا» المختلفة، وحصل على جائزة الرجل الأكثر إثارة للإعجاب 55 مرة!
هذه التجربة تثبت أن الإعلام والدين متلازمان، وأن رجل الدين يستطيع أن ينجح إعلامياً بصورة تثير الدهشة والإبهار، فالنجاح الإعلامي ليس احتكاراً لصناع «الميديا» وحدهم.
والحقيقة أن الثورة في مجال «الميديا» تفرض على الدعاة التعامل معها، وإجادتها وأخذها على محمل الجد، فالعصر الذي نحياه هو عصر الشاشات بكافة أنواعها، ولا تستطيع الدعوة النفاذ إلى غالب قلوب الناس إلا من خلال الشاشات، فلم يعد المنبر وحده كافياً لتبليغ الرسالة، كما أن الدعوة الفردية من الممكن ممارستها من خلال «الميديا» ومواقع التواصل الاجتماعي، فتكنولوجيا الاتصال من أهم منجزات الإنسان الحديث، فقد قربت المسافات، وأفرزت ثورة معلوماتية هائلة، كما منحت شبكات التواصل الاجتماعي الفرصة لمئات الملايين من الأفراد إمكانية أن يكونون صناعي محتوى، وأن يطرحوا أفكارهم بسهولة ويسر، وهذا يفرض على الدعاة أن يكون لهم حضور قوي وفعال في «الميديا» خاصة مواقع التواصل الاجتماعي، وأن يكونوا على دراية بطبيعة الوسيط وقدراته، ومن المهم إلى جانب تطوير قدرات الدعاة في التعاطي مع «الميديا»، ضرورة أن يكون الاهتمام بالفئات الشبابية التي تجيد التعامل مع «الميديا» وشبكات التواصل الاجتماعي، وإمدادها بالعمق الديني والمعرفي لتمارس هي نشاطاً دعوياً ناجزاً وواسعاً في الفضاء الرقمي.
ونشير هنا إلى نماذج نجاح من شباب استطاع أن يحقق نجاحاً دعوياً من خلال «الميديا»، بمبادرات شخصية، لكن تفوقهم كان متميزاً، فـ«الميديا» مجال واسع للمنافسة، وتحصيل النجاح، ففي دراسة بعنوان “إنستجرام مسلم» عن تجربة مجموعة من الشباب المسلم استطاعوا أن يمارسوا الدعوة من خلال موقع “إنستجرام” وأن يعبروا عن هويتهم الإسلامية، ويدعوا إليها، فالفهم الجيد للوسيط الإلكتروني أسهم في نجاحهم، خاصة إجادة عرض الصور التي تعبر عن الدين، ومنحها الجاذبية من خلال التقنيات الحديثة، فكانت الصور بالحجاب وأثناء تأدية مناسك الحج والعمرة، والصلاة في المساجد والممارسات اليومية، تحمل رسائل دعوية حققت نجاحاً ملحوظاً، ومن خلال الصورة أخذت تتحطم بعض من الصور النمطية عن التدين الذي صار في أذهان البعض قريناً للعنف والغلظة، وغياب الأناقة والرثاثة، حيث استندت تجربتهم على فكرة تقديم الإسلام بصورة جذابة وناضرة ومحفزة على الاقتداء والتأسي والاتباع.
وكما يقول الداعية الأمريكي المسلم مالكوم إكس: «الإعلام هو أقوى كيان على وجه الأرض، فلديه القدرة على جعل الأبرياء مذنبين وبراءة المذنب، وهذه هي القوة؛ لأنهم يتحكمون في عقول الجماهير»، ومن ثم فمن العبث أن يعطي الدعاة ظهورهم لـ«الميديا».
__________________
[i] Blind Spot: When Journalists Don’t Get Religion