يشكل تاريخ الأمة الإسلامية مصدراً مهماً لبناء المستقبل، والدراما من أهم الوسائل التي يمكن أن نستخدمها في بناء القوة وتشكيل الوعي ومقاومة الاستعمار الثقافي؛ فمن أهم التحديات التي يجب أن تواجهها الأمة أن تطور صناعة الدراما؛ لتروي بها قصتها وتقدم نفسها للإنسانية كفاعل في التاريخ، وتوضح للعالم أنها قدمت إنجازات حضارية عظيمة.
تعتبر التجربة التركية حالة شاهدة على أهمية استخدام الدراما التاريخية في بناء قوة الدولة، ومكانتها العالمية وصورتها الذهنية، وكسب العقول والأرواح؛ لذلك يجب أن نبدأ مرحلة كفاح نستخدم فيها تاريخنا في بناء صناعة دراما تحقق أهدافاً عظيمة من أهمها زيادة وعي الجمهور بالوظيفة الحضارية للأمة الإسلامية، ودورها التاريخي في تحرير البشرية من الظلم والقهر والعبودية لغير الله.. لكن، لماذا يشوهون صورتنا؟!
لقد نجح الاستعمار والمستشرقون والمثقفون العرب المتغربون في تشويه التاريخ الإسلامي، عن طريق اختيار بعض الأحداث السلبية والتركيز عليها والمبالغة في تصويرها، وتجهيل الجمهور بالإنجازات الحضارية للأمة الإسلامية، وبذلك تم تزييف وعي الأمة وتضليلها، وزيادة مساحة الاختلافات، والعمل لتحقيق أهداف صغيرة لخدمة بعض النظم الحاكمة، ودفع بعض الشعوب للشعور بالتميز عن الأمة الإسلامية، والانفصال عنها، والترويج للقُطرية والوطنية، ومحاربة التيار الإسلامي الذي يعبر عن أشواق الأمة لتحقيق الاستقلال الشامل.
ولم تنجح الأمة حتى الآن في الدفاع عن تاريخها وهويتها، باستخدام الدراما التي نجح المتغربون عملاء الاستعمار الثقافي الغربي في توظيفها لترويج الصورة النمطية التي أراد الغرب ترسيخها في أذهان الشعوب، ونستطيع هنا أن نقدم الكثير من البراهين العلمية على ذلك من خلال دراسة تاريخ الدراما العربية، خاصة المصرية والسورية.
أهداف صنَّاع المسلسل
سنكتفي في هذه السطور بالتركيز على نموذج واحد هو مسلسل «رسالة الإمام» الذي أنتجته شركة «المتحدة» وعرض خلال شهر رمضان الماضي على 3 قنوات مصرية، وتم استخدام الكثير من الإمكانات المادية والبشرية لضمان نجاح المسلسل.
لكن دراسة هذا المسلسل توضح أهمية فتح المجال العام لمناقشة حرة حول الشروط التي يجب أن يلتزم بها صناع الدراما التاريخية، وتحديد الأهداف التي يعملون لتحقيقها، وكيف يمكن ضمان المصداقية للعمل الدرامي، وضمان عدم تزييف التاريخ، وتشويه صورة الأمة.
الهدف الأول لصناع هذا العمل هو أن مصر كانت تعاني من أزمة سياسية واقتصادية، وأن الإمام الشافعي جاء إلى مصر ليقدم حلاً لها بعلمه، وشخصيته التي جعلت شعب مصر يحترمه ويعرف قدره، وهذا يعني أن وصول الإمام الشافعي إلى مصر شكَّل نهضة، وساهم في أن تتجاوز مصر أزمتها، وأن الإسلام هو الذي يقدم حلاً لمشكلاتها، وبالتأكيد فإن تلك فكرة جيدة، لكن من المؤكد أن هذه ليست الفكرة المحورية، ولم يحاول المسلسل تحقيق هذا الهدف بالرغم من أنه كان يمكن أن يضمن النجاح للمسلسل.
الإمام تأثر بالحضارة المصرية!
حاول المسلسل إثارة المشاعر الوطنية بتصوير الإمام الشافعي بأنه تأثر بالحضارة المصرية، ولذلك تم إقحام مشهد خطير يشكل تزييفاً للتاريخ؛ حيث يلجأ الإمام إلى راهب مسيحي مصري لعلاج زوجته، هل يمكن أن يصل العبث إلى هذا الحد؟!
هذا الهدف هو الذي دفع صناع العمل لارتكاب الكثير من الأخطاء التي لا يمكن تبريرها، فالإمام الشافعي غيَّر الفقه في مصر؛ لأنه اكتشف أن الثبات على الرأي –رغم ظهور خطأ هذا الرأي– أمر سيئ.
ومن الواضح أن صناع العمل أرادوا تحديداً الترويج لهذه الفكرة، والبحث عن تبرير لها بتزييف التاريخ، بهدف التخلي عن الكثير من الثوابت الإسلامية.
لذلك، يصف د. خالد فهمي، أستاذ اللغويات، هذا المسلسل بأنه عبث يرقى إلى مستوى الجريمة، جريمة في اللغة، فالشافعي قرشي ولسانه الفصحى، وجريمة فيما يتعلق بسيرته الذاتية، وملكاته الفقهية والعلمية، وجريمة في كثير مما يجري على لسان الممثل مما يقال: إنه فقه الشافعي، وجريمة في تصوير الواقع الاجتماعي.
لم يفهم صناع المسلسل أن الإمام الشافعي يعبر عن حضارة الإسلام التي بنتها خير أمة أخرجت للناس، ويتفاضل فيها الناس بالتقوى، فلا فضل لعربي على أعجمي، لذلك فإن محاولة تحقيق أهداف وطنية قُطْرية، أو التعصب لمصر، في هذا المسلسل، عملية تزييف للتاريخ تدمر مصداقية العمل، فهل يمكن أن يتصور عاقل أن يتحدث الإمام بلهجة مصرية تطورت خلال القرنين الماضين، فيقول: «الفسطاط منورة بأهلها».
هل كان أحد في الفسطاط يتحدث بهذا الأسلوب؛ حتى يمكن وضع مثل تلك الكلمات على لسان الإمام الشافعي القرشي الذي تميز بفصاحته وبلاغته، وكان نموذجاً عظيماً للقيادة الإسلامية القائمة على المعرفة؟ وفي عصر الإمام الشافعي كانت مصر تتحدث اللغة العربية الفصحى، وكانت الفصاحة والبلاغة من أهم مقاييس القيادة والأصالة والمكانة الاجتماعية والمصداقية؛ لذلك هل يليق بالإمام الشافعي أن يتكلم بلهجة عامية؟
أين الأزهر وعلماء التاريخ؟!
تدعي الشركة المنتجة أنها استعانت بمُراجع تاريخي، وأن مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر الشريف قام بمراجعة المسلسل، فإن صحت تلك الادعاءات فإنها تشكل كارثة، فكيف يمكن أن يوافق على تزييف التاريخ بهذا الشكل؟! هناك الكثير من الأخطاء، لكننا سنكتفي بتقديم مثال واحد، فالمسلسل يصور حواراً بين المأمون والإمام الشافعي حول خلق القرآن، لذلك من حق الأمة أن يتم الاستعانة بعلماء حقيقيين يمتلكون الشجاعة والجرأة ليقولوا لصناع المسلسل: أيها الجهلاء، إن الإمام الشافعي توفي عام 204هـ قبل محنة خلق القرآن! لكن لماذا يريدون لنا أن نتذكر تلك المحنة بعد أن ماتت، وعادت الأمة إلى الحقيقة الواضحة الساطعة، وهي أن القرآن كلام الله المنزّل على رسوله عن طريق أمين الوحي جبريل عليه السلام، فهل يريد صناع المسلسل فتح المجال لمحنة جديدة؟! إن هذا المسلسل يوضح حاجة الأمة إلى علماء حقيقيين يقرؤون تاريخها بعمق ليشكل أساساً لبناء صناعة دراما تساهم في بناء وعي الأمة بهويتها ووظيفتها الحضارية وإنجازاتها؛ فالدراما التاريخية فن وعلم وإرادة أمة تريد أن تبني مستقبلها.