هفتْ نفسُ أبي البَدَّاح بن عاصم إلى الزواجِ من جُمَيْلِ بنت يسارٍ(1)، فجمعَ أمرَهُ ونفسَهُ ويمَّمَ شطر أخيها معقل بن يسارٍ المزنيّ طالبًا الود واليد، وكان أبو البداح من وجهاء قومه، وذؤابة أنسابهم، وابن سيدهم عاصم بن عَدِيّ بنِ الجدِّ بنِ العَجْلانِ(2)، فأنزلَهُ معقل منزلته، وزوَّجهُ، وأكرمهُ، وأفرشهُ(3).
ولسببٍ أو أكثر، ولعارضٍ أو لآخر، طلَّقَ أبو البداح جُمَيْلًا، وتكشَّفتْ أيامُ الفراقِ لأبي البداحِ عن صخبٍ وألمٍ نفسيين جعلاه يرزحُ تحتَ عبءٍ لا قبلَ له باحتمالِهِ، كانتْ جُميْلُ فحسبُ هي التي ترفعهُ عن كاهلِ أيامهِ بمودةٍ ورحمةٍ، وأمسى لا يتمنَّى شيئاً أكثرَ من ردِّها إلى عصمتِهِ، كان يدركُ بحسِّ العشرةِ أنها لن تردَهُ خائباً، وكان صائباً.
فقد كانت جُمَيْل تدركُ أنه رجلٌ قلَّ نظيرُهُ لولا العارض الذي ألمَّ بحياتِهما ودفعَهُ دفعاً إلى فراقها، وَصَبَتْ نفسها للعودة إلى سالفِ عشرتِهِ، حتى باتت العودةُ أملًا يداعبُها في يقظتِها ونُعاسِها، وحلمًا تودُّ طوال الوقت لو يتجسَّدُ واقعًا في حياتها، وليس من شكٍ في أنه ما من إنسان إلا وعرضَ له عارضٌ، ولو خُيِّر بين كنوزِ الدنيا وزوالِ هذا العارض لآثر الأخير، وما أن انقضت عدَّةُ جُميل حتى كانت عقبات الفراق قد أجهدت أبا البداح تمامًا، فإذا به جالسٌ بين يديِّ أخيها معقل بن يسار يخطب جُمَيْلاً مرة أُخرى، ولم يأبه معقل إلا إلى معنى إهانة أبي البداح له ولأختِهِ، فحمى عصبيَّةً وأَنَفةً وهتف به: زوجتُكَ، وأكرمتُكَ، وأفرشتُكَ، فطلقتَها ثم جئتَ تخطبُها، لا والله لا تعودُ إليها أبداً(4).
لمس أبو البدَّاح ما في معقلٍ من إصرارِ فعاد أدراجَهُ وتعابير الحسرةِ تفترشُ وجهَهُ ووخزات الألمِ تفترسُ قلبَهُ، مخلِّفًا جُميلاً تشاطرهُ ما يشعرُهُ من هصرِ المشاعرِ(5) وكسرِ الفؤادِ، وعلمَ اللهُ عزَّ وجلَّ صدقَ أبي البداحِ، وجُميلٍ، وحاجةَ كلٍ منهما للآخر، فامتدَّ النورُ من السماءِ إلى الأرضِ حاملاً وحياً بشأنِهما معطراً بكلماتٍ ربانيةٍ تتلى إلى يومِ القيامةِ: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 232)، قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في الرجل يطلق زوجته طلقة أو طلقتين، فتنقضي عِدَّتُها ثم يبدو له أن يتزوجها وأن يراجعها وتريد المرأة ذلك، فيمنعها أولياؤها من ذلك، فنهى الله أن يمنعوها(6).
ودعا النبي صلى الله عليه وسلم معقلاً وأعلمَهُ بخبرِ السماءِ، وتلا على مسامعِهِ تلكُم الكلماتِ الربانيةَ التي نزلتْ في شأنِهِ، وكأننا بمعقلٍ وقد وسعتْ عيناه من ذهولٍ غَشَاه، وفتح فاهُ من دهشٍ عَرَاه، وظلَّ للحظةٍ عاجزاً عن الكلامِ، وأسعفتْهُ فطرتُهُ السواءُ إلى أعظمِ معنى خَبَرَتْهُ أيامُهُ لهُ وعنهُ، إن اللهَ أنزلَ فيه قرآناً يُتلى إلى يومِ القيامةِ، فتحدثتْ البهجةُ بينَ شغافِ قلبِهِ ألواناً، وصرَّحتْ الغبطةُ بينَ جنباتِ نفسِهِ فنوناً، وفجأةً فُكَّ لسانُهَ من عقالٍ، وقد تركَ الحميةَ واستقادَ لأمرِ اللهِ، وجعلَ يرددُ مثبتاً عينيهِ على الوجهِ الشريفِ: الآن أفعل يا رسول الله(7) سمعاً لربي وطاعةً.
ودعا معقلٌ أبا البداحِ وقالَ لهُ منتشياً محبوراً: أزوجك وأكرمك.
لله درُكَ يا معقل، فأغلبُ اليقينِ أن ردود الفعلِ تتباين أمام تصرفِك مع أبي البداح، فربما التمس لك البعض عذراً لمَّا رددتهُ أدراجَهُ ولم تُـنِـلْهُ حاجتَهُ، وربما ثرَّبَ(8) عليك لسانٌ بما لا تشتهي، ولكننا أمام صيحتك التي خلَّدَها التاريخُ ووشتْ بعمقِ هزَّتِكَ النفسيةِ من فرط تأثيرِ الكلماتِ الربانيةِ في فؤادك، لا نشعر إلا بامتدادِ تأثيرِها في أفئدتِنا وبين جوانحِنا لنطلقها كما جاءت على لسانك تماماً أمام كل أمرٍ إلهي، ولأن كل الأوامر الإلهيَّة جاءت فحسب عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم وعلى طريقته، فينبغي أن نضيف هويته الشريفة، فنقول: الآن نفعل يا رسول الله؛ سمعاً لربنا وطاعة.
ولا ريب أنَّ الحدث مَحَا طبقاتٍ من الكآبةِ كانت تمثُلُ على كلِ الأشياءِ من حولِ أبي البداحِ، وجُميلٍ، وأحلَّ محلَها هالاتٍ من نورٍ دعَتْهُما إلى شكرِ اللهِ طويلاً.
وبقي أن نتعقب نثاراتِ الأخبارِ عن معقلِ بنِ يسارٍ بن عبدالله بن مُعَبِّر المزني: كان من قبيلةِ مزينةَ وولِدَ قبلَ الهجرةِ الشريفةِ بنحوِ 10 سنواتٍ، وأسلمَ قبلَ الحديبيةِ، وشهدَ بيعةَ الرضوانِ(9) وهو في السادسةِ عشرةِ من عمرِهِ وقالَ يومَها: بايعنا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم على ألَّا نَفِرّ.
لتبقى كلمتُهُ شهادةً على روعةِ شجاعتِهِ وتبكيرِ رجولتِهِ، وصعد صلى الله عليه وسلم إلى الرفيقِ الأعلى وبقيَ معقلٌ في مسيرتِهِ وروى عنه صلى الله عليه وسلم، ولتألقِ مزاياهُ وتميّزِ قدراتِهِ أمرَهُ عمرُ بن الخطاب رضي الله عنهُ بحفرِ نهرٍ بالبصرةِ فنُسبَ إليهِ النهرُ وسمِّيَّ نهرُ معقلٍ، وأقام بالبصرةِ على ضفافِ نهرِهِ حتى سافر مشتاقاً إلى ربِهِ في آخرِ خلافةِ معاويةَ رضي اللهُ عنهُ وقد حدا بهِ العمرُ إلى نحوِ السبعين.
______________________________
(1) راجع الإصابة (10985) (10986)، وأسد الغابة (6812).
(2) أسد الغابة (2672).
(3) قام بالمطلوب منه في تجهيز بيت الزوجية.
(4) أسد الغابة 6812).
(5) كسرها وتمزيقها.
(6) انظر: تفسير ابن كثير للآية.
(7) حديث صحيح أخرجه البخاري (4837).
(8) لامه وعيَّره.
(9) الإصابة (8160)، وأسد الغابة (5038).