يدّعي أتباع النصرانية في الشرق والغرب أن الإسلام دين يدعو إلى العنف وعدم المسامحة، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ) (البقرة: 194)، وهذا على العكس من النصرانية التي تدعو أتباعها إلى التسامح وسمو الخلق، مستشهدين على ذلك بالقول المشهور: «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر»، فكيف نرد على هذا الادعاء؟
تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها:
لقد تعود بعض النصارى على الارتزاق بمهاجمة الإسلام، وليس عندهم مانع للوصول إلى هذه الغاية من الكذب والبهتان، وهذا ما تؤكده الشبهة التي بين أيدينا.
ونحن نؤكد أن هذه الشبهة باطلة بالوجوه التالية:
الأول:
أن هذا النص مذكور في إنجيل متى (الإصحاح 39:5) وهو بهذه الصيغة: «سمعتم أنه قيل: عين بعين وسن بسن، وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً، ومن سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين».
وهذا أمر صدر من عيسى عليه السلام لأتباعه بأن لا يُقاوموا الشر في هذا الوقت، فلو أمرهم بمقاومة مضطهديهم لكان ذلك أشبه بالانتحار، ولكان فيه القضاء على دعوته منذ بدايتها، ولذلك فإن دعوة من لطمك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر ليست قاعدة عامة ومطلقة، وإنما تعبير عن منهج عُمِل به في وقت محدد وفي ظروف خاصة.
ومما يدل على صحة كلامنا أن عيسى عليه السلام بمجرد أن قويت الدعوة قال بوضوح كما في إنجيل متى (34:10): «لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض، ما جئت لألقي سلاماً، بل سيفاً وناراً وانقساماً»، فنسخ بذلك ما جاء في الآية الأولى، ثم أوصى بعد ذلك بما هو أشد لحماية الدعوة حينما أمر أتباعه بشراء السيوف للدفاع عن الدين فقال كما في إنجيل لوقا (36:22): «لكن الآن، من له كيس فليأخذه ومزود كذلك، ومن ليس له فليبع ثوبه ويشتر سيفاً».
الثاني:
أن واقع حياة أتباع عيسى عليه السلام في الشرق والغرب يُكذِب هذا الادعاء، فلقد خاض هؤلاء حروباً دامية على طول التاريخ أقل ما يقال عنها أنها جرائم حرب، ولغة الأرقام لا تكذب، فبحساب نسبة القتلى بالقياس إلى أعداد الجيوش المشاركة فيها نجد أن نسبة القتلى في هذه الحروب بلغت 351%!
لقد شارك في الحرب العالمية الثانية 15.600.000 جندي (15 مليوناً وستمائة ألف)، ومع ذلك فعدد القتلى بلغ 54.800.000 قتيل (54 مليوناً وثمانمائة ألف)! أي أكثر من ثلاثة أضعاف الجيوش المشاركة! وتفسير هذه الزيادة هو أن الجيوش المشاركة جميعًا -وبلا استثناء- كانت تقوم بحروب إبادة على المدنيين، وكانت تسقط الآلاف من الأطنان من المتفجرات على المدن والقرى الآمنة، فتبيد البشر، وتُفني النوع الإنساني، فضلاً عن تدمير البُنى التحتية، وتخريب الاقتصاد، وتشريد الشعوب، وليس خافيًا على أحد أن المشاركين في هذه المجازر -في مجموعهم- ينتسبون إلى دين عيسى عليه السلام فأي أخلاق هذه؟!
الثالث:
أن الحروب التي خاضها النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن على هذه الصورة، وكان حريصًا على تجنب القتال ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وإذا اضطر إليه حاول أن ينهيه بسرعة، وأثناء القتال نفسه كان يحفظ دماء المدنيين، وكذلك يحفظ دماء المستكرهين على القتال، ثم بعد القتال كان يعفو إذا ملك، ويسامح ويرحم إذا غَلَب، فجاءت حروبه صلى الله عليه وسلم على مستوى من الرقي لا تعرفه الحضارات الحديثة!
وبلغة الأرقام، نجد أن عدد الذين ماتوا في كل الحروب النبوية، سواء من شهداء المسلمين، أو قتلى الكفار لا يقارن بما يحدث في عالمنا المعاصر.
بلغ عدد شهداء المسلمين في كل معاركهم أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك على مدار عشر سنوات كاملة، 262 شهيدًا تقريبًا، وبلغ عدد قتلى أعدائه صلى الله عليه وسلم حوالي 1022 قتيلاً، وهذه الإحصائية تجمع كل من قُتِل من الطرفين حتى ما تم في حوادث فردية، وليس في حروب مواجهة، وبذلك بلغ العدد الإجمالي لقتلى الفريقين 1284 قتيلاً فقط!
الرابع:
أن هؤلاء أغفلوا وتناسوا الآيات التي تدعو إلى التسامح كقوله تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت:34-35).
كما أنهم تناسوا ما ورد في التوراة: «وإن حصلت أذية؛ تعطى نفساً بنفس وعيناً بعين وسِنًّا بسن ويداً بيد ورجلاً برجل وكيًّا بكى وجرحاً بجرح ورضاً برضى» (سفر الخروج 23-24-25)، وليس عندهم دفع الدية في مقابل العفو عن القاتل.
أما في القرآن الكريم ففيه قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (البقرة: 178).
الخامس:
السُّنة النبوية مليئة بالأدلة التي تدل على سماحة وعدل الإسلام حتى مع أعدائه:
1- عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط بيده، ولا امرأة ولا خادمًا، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نِيل منه شيء فينتقم من صاحبه، إلا أن يُنتهكَ شيء من محارم الله، فينتقم لله»(1).
2- عن جابر رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتفرق الناس في العضاة (شجر به شوك)، يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، فعلق بها سيفه، قال جابر: فنمنا نومة فجاء رجل من المشركين: فاخترط (أخذ) سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتخافني؟ قال: «لا»، قال: فمن يمنعك مني؟ قال: «الله»، قال جابر: فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا فجئنا، فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صَلْتًا، فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله، فها هو ذا جالس، ثم لم يعاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم»، وفي رواية أبي عوانة: فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من يمنعك مني؟»، قال: كن خير آخذ، قال: «تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟»، قال الأعرابي: أعاهدك على ألا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، قال: فخلى سبيله، فجاء إلى قومه فقال: جئتكم من عند خير الناس(2).
3- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبَل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له: ثُمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما عندك يا ثمامة؟»، فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت.. فتُرِك حتى كان الغد فقال: «ما عندك يا ثمامة؟»، فقال: ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر.. فتركه حتى كان بعد الغد فقال: «ما عندك يا ثمامة؟»، فقال: عندي ما قلت لك، فقال صلى الله عليه وسلم: «أطلقوا ثمامة»؛ فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليَّ، والله ما كان من دين أبغض إليَّ من دينك، فأصبح دينك أحب دين إليَّ، والله ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إليَّ، وإن خيلك أخذتني، وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت (خرجت من دينك)؟ قال: لا، ولكن أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم(3).
وبناء على ذلك؛ نستطيع أن نؤكد كذب هؤلاء في ادعائهم أن الإسلام من خلال هذه الآية الكريمة يدعو إلى العنف، وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: «أيها الناس، إنما أنا رحمة مهداة»، وقد قال الله تعالى عنه صلى الله عليه وسلم: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107).
وقال أحد المستشرقين المنصفين، وهو الإسباني جان ليك، في كتابه «العرب»: «لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) كان محمد رحمة حقيقية، وإني أصلى عليه بلهفة وشوق»(4).
______________________
(1) أخرجه مسلم (2328).
(2) أخرجه البخاري (4136)، ومسلم (843).
(3) صحيح مسلم، رقم: 1764
(4) المستشرق الإسباني جان ليك، «العرب»، ص 43.