مرّت سنوات على هذه الأمة، كانت فيها أنظارها شاخصةً نحو فلسطين، مندمجةً مع قضيتها وجهاد شعبها، متغلغلةً في تفاصيله، مستلهمةً من حالته الكفاحية معاني كبيرة، مدارها الصمود والإقدام والإصرار وإرادة المواصلة والتصدي للاحتلال، حتى وإن تواضعت أدوات المجابهة التي يمتلكها الشعب الرازح تحت الاحتلال، وكان من تجلّيات هذا الاندماج والتأثر بحالة الكفاح الفلسطيني أن رأينا مطلع «الربيع العربي» بعض الأنماط النضالية الفلسطينية الشعبية تُستلهم في الشوارع العربية، بل كانت قضية فلسطين حاضرةً في وعي الجماهير العربية وفي هتافهم وفي تنظير ثوارهم، حول وحدة الحال والمصير، وهدف التخلص من كل أشكال الاحتلال والاستبداد.
لاحقاً، ومع استشراس أدوات الثورة المضادة في قهر إرادة الجماهير وتسكين عنفوانها وإفشال تجاربها وإقعادها عن تكرار محاولات النهوض، بدأ ألق القضية الفلسطينية يخفت في الوعي العربي، فقد أُتخم الفضاء العربي بجراح شتى، وصارت لكلّ بلد قضيته الخاصة، وبدأ يتفكك مفهوم وحدة الأمة، في الهموم والأهداف، وفي الآمال والتطلعات.
اختراق وعي الشعوب
لا يمكن بطبيعة الحال، إزاء حال كهذه لوم الجماهير العربية، وخصوصاً قواها وهيئاتها الحية، فهذه أيضاً كانت في دائرة الاستهداف، إنما لا بد دائماً من التذكير بضرورة ألا يغيب عن الوعي العربي ذلك الخطر الوجودي الأكبر الذي يتهدد حاضره ومستقبله، وهو الكيان الصهيوني، أي الكيان الذي لا يقتصر خطره على حدود فلسطين المحتلة، بل يطال كل الخارطة العربية والإسلامية، والذي تطلّب تثبيت وجوده وإزالة الأخطار من حوله قمع ثورات الشعوب وإجهاضها، وإبقاء المجال العربي خاضعاً ومقيّداً ومنشغلاً بقضاياه الخاصة في كل قُطر.
وكان طبيعياً أن يستغل الكيان الصهيوني كل تلك التطورات ليحاول إحياء قطار التطبيع، ومدّ سكته في كل الأرض العربية، متجاوزاً به هدف التطبيع الرسمي وإبرام اتفاقيات مع الأنظمة إلى محاولة اختراق وعي الشعوب، انطلاقاً من حاجة هذا الكيان للاحتواء على صعيد جماهير الأمة وليس أنظمتها فقط، فتحقيق المصالح المادية والأمنية والعسكرية وتأمين جبهته ليست غاية الاحتلال الوحيدة من التطبيع، فهناك أيضاً هدف إحداث اختراقات علنية في أجساد الأمة وصفوفها، وكسر ممانعتها النفسية تجاهه، وإنهاء اغترابه وسط محيط إسلامي وعربي واسع ظلّ يرفض وجوده، حتى وإن كان كيان الاحتلال يستر شعور الاغتراب هذا عبر المبالغة بإظهار عناصر تفوقه العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية، والتعالي بها على البلاد العربية وشعوبها، والترويج بأن التطبيع معه سيعود بالنفع المادي والتنموي على الدول العربية المطبعة.
هذه الفكرة المضللة ينفيها واقع الدول التي طبعت علاقاتها منذ عقود مع الكيان الصهيوني مثل مصر والأردن، كون هذا التطبيع لم يجلب لها مثقال ذرة من خير أو منفعة على مدار السنين، بل استغل الاحتلال علاقته معها لنهب ثرواتها واختراق مجالاتها بأشكال عدة، وهذا على كل حال واقع اليهود الذين قرّر الخطاب القرآني حقيقتهم وشحّهم وانتهازيتهم، ومَن أصدق من الله قيلاً: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) (النساء: 53).
مواجهة خطر التطبيع
وإن كان ثمة اتفاق بأن التطبيع النفسي الشعبي أخطر من الرسمي، وإن كانت جهود كيان الاحتلال منصبة على التغلغل الناعم داخل الكيانات العربية والمسلمة، فمسؤولية النخب العلمية والثقافية الحرة ألا تسمح به، وأن يدرك علماء الأمة ودعاتها والمصلحون فيها أنهم الحرّاس الأهم لهذا الثغر، والمؤتمنون على سلامته، ومراقبة كل محاولات اختراقه، سواء عبر وسائل الإعلام، أو من خلال المناهج التعليمية التي يجري تعديلها في بعض البلدان تحت عناوين مخاتلة مثل نشر التسامح وتقبل الآخر، ونبذ العنف، وإحلال ثقافة الحوار والتعايش مع كل الناس.
إن الوعي بخطورة التطبيع هو دافع للتصدي له، أما التقليل من شأنه على مستوى النخب والعلماء فهو إيذان بأن تمسّ نيرانه الأوساط الشعبية داخل الأمة، والتطبيع النفسي (وهو الأخطر) لا يحدث بقرار رسمي ولا بجرة قلم، بل يتسرب شيئاً فشيئاً للنفوس، ويمكن أن تألفه مع الوقت إن لم تجد ما يصدها عنه ومن يذكرها بخطورة الاستعداد للتعايش مع كيان الاحتلال، حتى على نطاق التقبّل النفسي لوجوده، محتلاً لفلسطين، أو متسللا إلى البلاد العربية والإسلامية، بأشكال عديدة، ثقافية وإعلامية واقتصادية وسياسية.
لكلّ هذا، فإن الموقف من التطبيع ينبغي أن يظلّ حازماً وجازماً بالرفض والإنكار، ومتتبعاً كل محاولات المحتل الصهيوني إعادة تعريف نفسه وإنتاج صورته، ليتصدى لها ويكشف حقيقتها ويقطع عليها سبل النجاح.