لست أجنبياً كما يبدو من مظهري، أؤكد لكم أنني كذلك من الخارج فقط، أما الداخل فكما أنا، وبما أنكم تريدون قصة مسلية فسأحكي لكم أمرًا يُعجب كل من أحكيه له؛ وهو قصة زواجي.
قال أستاذ لنا في المدرسة ونحن صغار أحجية، سألنا: ما الشيء الذي إن مرّ فلن يعود ثانية؟! قال أذكانا: الروح، فقال الأستاذ: بل ستعود ولا شك، أما الذي لن يعود فهو العمر، فإن استطعتم ألا يمر الوقت إلا وقد علمتم ضرورة الوقت فلا تؤجلوا أبدًا، فإنه سيأتي ضرورات غيرها في أوقات أخرى.
ولم أعرف قيمة هذه الحكمة إلا وقت تلك المواعدة التي سأحكي لكم عنها في هذا البلد الغريب، وذلك -فقط- حين أدركت من نفسي استحالة مقاومة «التعزب».
لا شك أنني كمثل كل الشباب أحتاج للاستقرار الجسدي، ولكنني كنت أفتقد استقرارًا آخر كنت قد كابرت كثيرًا في ادعاء عدم حاجتي إليه؛ وهو الاستقرار النفسي، فحاجتي إليه كانت أضعاف كل حاجة، ولا أنسى -قبل أن أعترف لنفسي بهذا- ضحكي وتندري على صديقنا المتزوج حين سأله أحدهم عن سبب زواجه المبكر فقال مازحًا: احتجت أن تأتي إحداهن لتقول لي بعد يوم عمل شاق: حمدًا لله على سلامتك يا «Baby»! ثم لم يخلص صديقنا من التندر عليه حتى إني قلت له: كان يكفيك في ذلك جليسة أطفال لا زوجة، لكني علمت بعد ذلك أن بعض المزاح أصدق من ألف جد!
كنت قد سافرت للعمل في الغرب، وشعرت حينها بتلك الحاجة فسعيت للزواج، دلني صديق على شيء جديد ليس مألوفًا لي وهو «speed date» أو «المواعدة السريعة»، وهي جلسات هدفها المواعدة، لكنها تسمع بالتعرف على عدد كبير من الناس قبلها، يجلس الطرفان على طرفي منضدة صغيرة في وسطها جرس، ويبدآن بالكلام والتعارف وسؤال بعضهما عن أي موضوع؛ عمل.. هوايات.. أحلام.. أشياء يفضلونها في الشريك.. أي شيء، ويسمح لأي طرف الضغط على الجرس بعد ثلاث دقائق أو ست أو تسع متى أحب ليخرج الطرف الآخر ويأتي غيره ويذهب الآخر ليجلس مع غيره، وهكذا، وإذا لم يضغط أحد لأنهما يريدان التعرف أكثر فينتهي الأمر بالمواعدة، القصد أنك قد تجلس مع أكثر من عشر فتيات في المرة الواحدة، ففرصة أن ترى من تعجبك شكلًا أو موضوعًا أكبر من طرق أخرى غيرها.
أحببت تجربة الأمر وذهبت، جلست أول فتاة فوجدت نفسي أقول لها: أنا لن أضغط على الجرس، فإن أردتِ أنتِ فاضغطي وقتما تحبين، ابتسمَتْ وأشارت بالموافقة، وبعد ست دقائق ضغطَتْ فقمت وجاء غيري، وكان من المفترض أن أذهب إلى منضدة أخرى لكني لم أحب الأمر واكتفيت بالمراقبة من بعيد.
كلكم يسأل لماذا قلتُ ذلك للفتاة، في الحقيقة أني حينها لم أُمهل أيضًا وأتتني فتاة أخرى حيث كنت أجلس فسألتني نفس السؤال، فقلت لها: إني لست من بلدكم هذه، بل أنا شرقي عندي ثقافة مختلفة لا يصح فيها أن يرفض الشابُ الفتاةَ بل العكس هو الممكن، فعندما جلستُ على المنضدة وجدت أنه من العيب أن أضغط على الجرس وكأني أقول للفتاة أمامي: أنتِ لا تعجبينني فاذهبي ولتأت أخرى، كنت سأحتقر نفسي جدًا لو فعلت ذلك.
جلست الفتاة معي حينها أكثر من ساعة تسألني عن عاداتنا تلك، وانتهى الأمر بمواعدة ثم خطبة ثم زواج، لعل الأمر يبدو غريبًا، لكنني لفتت نظر تلك الفتاة التي تعودت كأهل هذه البلاد التي ليس عندهم فيها أي ثوابت، فلا يجرح مشاعرهم ما نسميه نحن قلة أدب! بل وحتى فقدان العلاقات الحقيقية عندهم أمر يسير للغاية، فليذهب من يذهب وليأت من يأتي ولا مشكلة عندهم بتاتًا، ولم يعجبني هذا ولم أنسق إليه يومًا، أنا كما أنا، أعتز بثقافتي وعاداتي، وقد خالفتها مرةً واحدةً في إقدامي على هذه المواعدة لكن رب ضارة نافعة، فقد تركت أنا وزوجتي ذلك البلد إلى غير رجعة، وننعم الآن بحياة جميلة والحمد لله.
أكثر ما يعجبني في قصتي هي الحكمة التي ذكرها أستاذنا ونحن صغار التي كان ولا بد أن أعمل بها مبكرًا عن ذلك الوقت، فإني غفلت كثيرًا عن ضرورة الوقت وأنا أجري وراء العمل والسفر ظنًا أني أجري وراء السعادة، لكني نسيت نفسي ونسيت معها السعادة الحقيقية التي لم أعرفها إلا بعد الزواج.